تربیة و تعلیم

المنهج التربوي الاسلامي ودوره في الحد من العنف الاسري

لم يقتصر التنظير الديني على موضوعة من موضوعات الحياة، كما يتصور البعض، متأثراً ببعض الاراء التي تحأول قصر الدين على الجانب العبادي ومبتعدة عن وصفه يمثل منظومة فكرية تربوية تشمل جميع جوانب الحياة.

ولا يمكن أن ننكر أن العبادة هي من اكثر المظاهر وضوحاً في السلوك الديني، ولكن وعلى الرغم من ذلك فإن الشرائع السمأوية ربطت بين جميع السلوك البشري وبين الجانب العبادي مرشدةً الى أن نتائج السلوك البشري لابد أن يفضي الى حالة عبادية تقرب الانسان الى الله -جلّ وعلا-.

ومن بين الكثير من مظاهر السلوك البشري مظهر العلاقة الزوجية، وتأسيس الاسرة والتي يعرفها البعض على أنها مجموعة من الضوابط والاحكام التي تحدد سلوكية وعلاقات أبناء الاسرة أو المنتمي لها، إذ الأسرة عبارة عن مؤسسة اجتماعية تتكون من أفراد يرتبطون ببعضهم بروابط إجتماعية وأخلاقية وروحية وهي التي تميو الاسرة البشرية عن الاسرة الحيوانية(1).  

وهناك العديد من المجتمعات الأولى في حياة الانسان ومنها الإسرة، والتي لها في نظر الشارع المقدس أهمية كبرى، إذ الإسلام يشكل النظم التربوية والعلمية والأخلاقية، والقواعد الأساسية التي ترتكز عليها الأسرة في ميادينها التربوية، لأن التربية ضرورة حتمية لتحقيق الاسلام، وكما من واجبات رب الاسرة (المؤمن) السعي لصلاح نفسه، فكذلك من واجباته السعي لصلاح جميع افراد الاسرة بل هي من أولى أولوياته(2).     

والعلاقات الاسرية هي من أهم العلاقات الإنسانية في هذه الحياة، إذ يترتب عليها بناء المجتمع، أو إنهياره، وتقدم البشر، أو تخلفهم، فإذا استقرت العلاقات الزوجية على اسس متينة، إستقر المجتمع كله، وإذا إنهارت تعرّض المجتمع وربما لأجيال متعاقبة لأخطار حقيقية، إذ أنَّ بناء العلاقات الزوجية هو أكثر من مجرد إرتباط الرجل بالمرأة بعقد شرعي، ولابد من جهدٍ يبذله الطرفان يومياً بالإضافة الى عمل دؤوب لتجنب العوامل التي من شأنها تخريب هذه العلاقات، ومن ذلك نعرف دور الوعي والثقافة الاسرية الرصينة في بناء هذه العلاقة، ومنع انهيارها(3).

ولابد من أن يعرف الزوج والزوجة أن لهما حقوق وعليهما واجبات تجاه الطرف الآخر، إذ ليس من الصحيح أن نؤكد على حقوق الزوجة فقط

وليس هناك من فرق واضح في مفهوم الاسرة بين الماضي وبين الحاضر فهي ذاتها المنظومة الاجتماعية التي تتشكل من الزوج والزوجة، ولا تتشكل الا باشتراكهما في شراكة عقدية تستمر ضمن الاطر والقواعد المتعارف عليها، بيد ان ما يختلف عنه اليوم هو السلوك الاسري الذي يتخذ مسارات تختلف كثيراً أو قليلاً عما كان عليه بالأمس.

والعلاقة الاسرية انما تستمد قوتها من الاحترام المتبادل بين اطرافها سواء كانت العلاقة بين الزوج أو الزوجة وعلاقة التعاطف والمودة بين الاصول و الفروع و العرف الاجتماعي السائد.

العنف الاسري الظاهرة والاسباب

تُعد ظاهرة العنف من الظواهر العامة المنتشرة في جميع انحاء العالم، والتي حظيت بإهتمام الكثير من الباحثين والدارسين لمعرفة الأسباب التي تؤدي الى انتشار هذه الظاهرة للعمل على الحد منها أو تقليلها، وقد تضمنت الدساتير واللوائح القانونية في أغلب دول العالم قوانين تتعلق بظاهرة العنف.

وإحدى صور هذه الظاهرة بل الأكثر شيوعاً هو العنف الاسري، ولا يقتصر العنف على المراة فقط، بل قد يتعدى الى جميع أفراد العائلة، ففي الكثير من الحالات نجد صدور العنف من الاباء تجاء الزوجة وكذلك الابناء، وتنتشر هذه الظاهرة بصورة ملحوظة في المجتمعات الذكورية والتي يتم الاهتمام فيها بالذكر سواء كان أباً أم زوجاً بل وحتى أخاً، إذ يقدم الذكر على الانثى وغالباً ما يكون هو المالك لرأيها، وتتعدد مظاهر سيطرة الرجل على المراة حتى تصل مصادرة قرارها من اكثر الامور تعقيداً وخصوصية الى ابسطها والامثلة كثيرة.      

وقد صدرت الكثير من النصوص الدينية الرادعة للعنف الاسري والتي أكدت على إشاعة روح الحب والتسامح والمودة بين افراد من جهة، ومن جهة أخرى مبينة أن علاقة الوالدين بأبنائهم هي مسؤولية ويترتب عليها الكثير من الواجبات أكثر مما هي تشريفية، فمرة عدَّ القرآن الكريم الزوج والزوجة بمثابة السكن لبعضهما البعض: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً}(4).

 وقال الإمام علي، عليه : “وأما حق زوجتك، فأن تعلم أن الله عز وجل جعلها لك سكناً وانساً، فتعلم أن ذلك نعمة من الله عز وجل عليك، فتكرمها، وترفق بها، وإن كان حقك عليها أوجب،فإنَّ لها عليك ان ترحمها، لأنها أسيرتك، وتطعمها وتكسوها، وإذا جهلت عفوت عنها” (5).

لا تقتصر آثار العنف على الزوجة التي تتعرض له ولكنه يمتد ليشمل الأبناء، فالعنف الأسري ينتج جيلاً يعاني من الأمراض النفسية كالاكتئاب والقلق والانطواء وعدم الثقة في النفس وغيرها من المشاكل التي تؤدي في أغلب الأحيان إلى محاولات الانتحار

ولابد من أن يعرف الزوج والزوجة أن لهما حقوق وعليهما واجبات تجاه الطرف الآخر، إذ ليس من الصحيح أن نؤكد على حقوق الزوجة فقط ونتجاهل حقوق الزوج لآنَّ هذا النوع من الطرح يوحي للمرأة بأنها صاحبة حق مسلوب وليس عليها واجبات تجاه زوجها وكذلك تجاه أولادها، والتي كانت وراء الكثير من حالات الطلاق لعدم أداء الزوجة لمهامها في الحياة الاسرية.

 ومن ثم نؤكد على واجبات الزوجة تجاه زوجته وأولاده لمنع حالات العنف الاسري، فعن الإمام الصادق، عليه السلام: “رحم الله عبداً أحسن فيما بينه وبين زوجته”، وقد رد على من سأله ما حق المراة على زوجها الذي إذا فعله كان محسناً؟ قال: يشبعها ويكسوها، وإن جهلت غفر لها” وكذا في الحديث النبوي الشريف: “أنَّ من حق المرأة على الرجل أن يغفر لها إذا جهلت”(6).

إذ من حق المراة على زوجها أن يحترمها، وعدم إهانتها بالقول والفعل وعدم ضربها أو إيذائها وأن لا يقبح لها وجهاً كما ورد في الحديث الشريف: يسد جوعتها، ويستر عورتها، ولا يقبح لها وجهاً)، وورد في حديث آخر: “ألا وإن الله ورسوله بريئان ممن أضر بإمرأةٍ حتى تختلع منه“(7).      

وأما فيما يخص الأولاد، فإنه من الواضح أن الأولاد ليسوا مخلوقات للرجل حتى تكون تصرفاته معهم تصرفات الخالق والمخلوق لا تخضع للحدود والمقاييس، إذ الأولاد (أمانة) و(فتنة)، ومسؤولية الزوج تجاههم تتلخص في: ضرورة رعايتهم قبل الولادة بتهيئة الظروف الخاصة بهم، ويختار الاسم المناسب لهم، وأن يحسن تعليمهم، وتربيتهم، وأن يزوجهم إذا بلغوا.   

ونحن نعتقد أن من الضروري إشاعة هذه التعاليم السماوية بين الناس حتى تكون وسيلة فاعلة للتغيير السلوكي عند الكثير من الازواج الذين لا يعطون الزوجة أو الزوج أو الأولاد حقوقهم، لأن المرأة التي تتعرض للعنف تفقد الإحساس بالأمن والكرامة وتقدير الذات، وهذا ليس قاصراً على العنف الجسدي فالعنف النفسي أسوأ كثيرا من العنف الجسدي كما ذكرت النساء اللاتي تعرضن للعنف.

 ولا تقتصر آثار العنف على الزوجة التي تتعرض له ولكنه يمتد ليشمل الأبناء، فالعنف الأسري ينتج جيلاً يعاني من الأمراض النفسية؛ كالاكتئاب والقلق والانطواء، وعدم الثقة في النفس وغيرها من المشاكل التي تؤدي في أغلب الأحيان إلى محاولات الانتحار، بالإضافة إلى تدنّي القدرات الذهنية واضطراب المستوى التعليمي للطفل وعدم قدرته على التواصل مع الآخرين.

 كما أن الشخص ضحية العنف (الزوجة والأبناء) قد يعاني من العقد النفسية التي قد تتطور وتتفاقم إلى سلوكيات عدائية أو إجرامية، كما قد يمارس أيضاً العنف الذي مورس في حقه مما يؤدي لاستمرار الظاهرة، وقد ينتج عن العنف الأسري تفكك الروابط الأسرية وانعدام الثقة بين أفراد الأسرة وتلاشي الإحساس بالأمان.

 ولأن الأسرة هي أساس المجتمع ومصدر قوته فالعنف الأسري يهدد كيان المجتمع بأسره وهو أكثر تأثيراً على المجتمعات من الحروب والأوبئة الصحية لأنه ينخر في أساس المجتمع فيهده أو يضعفه..

وعن اسباب العنف الاسري يرى بعض الباحثين انَّ هناك العديد من الاسباب وراء العنف الاسري منها، منها:

1- ظروف المعيشة الصعبة كالفقر والبطالة والضغط النفسي والإحباط المتولد من طبيعة الحياة العصرية اليومية.

2- سوء التربية والنشأة في بيئة عنيفة في تعاملها فالأفراد الذين يكونون ضحية للعنف في صغرهم، يُمارسونه على أفراد أسرهم في المستقبل فالعنف سلوكٌ مكتسبٌ يتعلمه الفرد خلال نشأته.

3- تعاطي الزوج للكحول والمخدرات.

و من المؤكد أنَّ إضطراب العلاقة بين الزوجين تأتي نتيجة ضعف الوازع الديني والأخلاقي وعدم الانسجام بين الزوجين في مختلف جوانب الحياة التربوية والتعليمية والاجتماعية والفكرية والبيئية، مما يؤدي لغياب ثقافة الحوار والتشاور داخل الأسرة، يضاف اليها الفهم الخاطئ للدين والعادات والتقاليد التي تركز على قيادة الرجل لأسرته بالعنف والقوة.

وفي الختام نحن نعتقد ان اشاعة المناهج التربوية الاسلامية هو الكفيل بالحد من الكثير من مظاهر السلوك المنحرف، والتي منها ظاهرة العنف الاسري بدلاً من وضع القوانين التي لا تتوافق مع مجتمعاتنا والتي تسهم في التقليل من الاحترام المتبادل بين أفراد الاسرة، وإشاعة فكرة إتهام الزوج لآي سبب كان. 

الهوامش:

1-علم الاجتماع والفلسفة، مجموعة باحثين، ط4، بغداد، وزارة التربية العراقية، 1419ه- 1998م، 148.

2- عبد العظيم نصر المشيخص، الإنحرافات الإجتماعية مشكلات وحلول، ط1، بيروت، دار الهادي، 1426ه- 2005م، ص57.

3- السيد هادي المدرسي، مقدمة لكتاب سجناء في قصر الزوجية: الاسرة في زمن العولمة، لـ يوسف غضبان، ط1، دار الجوادين 2011م، ص5.

4- سورة الروم، آية:21.

5- رسالة الحقوق للإمام زين العابدين، عليه السلام.

6- الشيخ فاضل الصفار، فقه الاسرة، ص251.

7- المصدر السابق، ص 253.


  • نشر في العدد 269 / شهر شباط/ 2017.

عن المؤلف

الشيخ حيدر الشمري

اترك تعليقا