ثقافة رسالية

الإمام الصادق والصبر على المصائب

يختلف أولياء عن العظماء غير الربانيين في أن أهم صفة من صفات اولياء الله هي علاقتهم بالله، وهذه العلاقة هي علاقة العبد المطلق لسيّده المطلق، علاقة التسليم الكامل لله، والخضوع الدائم له، والطاعة له بلا تردد لأوامره، والقبول بلا شروط لما يطلب منهم، فهم يعلمون بهذه الآية المباركة: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى}، فالله ربهم وسيدهم ومنتهى رغبتهم.

ويظهر تسليم الأولياء لأمر الله في جميع شؤونهم؛ صغيرها وكبيرها، دقيقها وعظيمها، في الرخاء، والشدة، في البلاء والمصيبة، وفيما يحبون ويكرهون.

يطيعون ربهم في كل ما يأمر به، ولا يعصونه في اي شيء ينهى عنه، ولعلّ حالات المصيبة أظهر الحالات، لقد قال ربنا وهو يصف عباده الصالحين: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}، وغيرهم يجزع وربما يعاتب ربه على ما ينزل عليه من المصائب، او يرفض ما حصل له، واحيانا يتوغّل في المعصية وكأنه يريد أن ينتقم من ربه ــ جل وعلا ــ أما هم فيحمدون الله حتى في المصيبة ويقولون: “يا مَن لا يُحمد على مكروهٍ سواه”.

🔺 يظهر تسليم الأولياء لأمر الله في جميع شؤونهم؛ صغيرها وكبيرها، دقيقها وعظيمها، في الرخاء، والشدة، في البلاء والمصيبة، وفيما يحبون ويكرهون

هذا هو الامام الصادق، عليه السلام، تحدث لاحد اولاده حادثة، فتكون ردّة فعله التسليم والطاعة وحمد الله وشكره.

فقد ورد في الحديث:

كات للصادق عليه السلام، ابن فبينا هو يمشي بين يديه إذغصّ فمات، فبكى الامام عليه وقال وهو يخاطب ربه: “لئن اخذت لقد ابقيت ولئن ابتليت لقد عافيت”.

ثم حمل ولده الى النساء، فلما رأينه صرخن، فأقسم عليهن أن لا يصرخن، فلما اخرجه للدفن قال: سبحان من يقتل اولادنا ولا نزداد له إلا حبا”.

فلما دفنه قال: “يا بني وسع الله في ضريحك وجمع بينك وبين نبيك. ثم قال: “إنا قوم نسأل الله ما نحب فيمن نحب فيعطينا فإذا أحب ما نكره فيمن نحب رضينا”.

وفي حادثة اخرى يقول قتية الاعشى: أتيت أبا عبدالله، عليه السلام، أعود ابنا له، فوجدته على الباب فإذا هو مهتم حزين، فقال: جعلت فداك كيف الصبي؟

فقال: والله إنه لِما بِهِ”. (اي إنه بين بين).

ثم دخل فمكث ساعة، ثم خرج الينا وقد اسفر وجهه، وذهب التغيّر والحزن، فطمعت أن يكون قد صلح الصبي، فقلت: كيف الصبي جعلت فداك؟

فقال: لقد مضى لسبيله.

فقلت: جعلت فداك، لقد كنتَ وهو حي مهتما حزينا، وقد رأيت حالك الساعة وقد مات غير تلك الحال، فكيف هذا؟

فقال: إنا اهل البيت إنما نجزع قبل المصيبة فإذا وقع أمر الله رضينا بقضائه وسلمنا لأمره”.

وبالطبع فإن الإمام عليه السلام، لم يكن بالذي لا يحزن في المصيبة،  او لا يطمع في العافية، إنما الأمر حينما يرتبط بإرادة الرب فعنده التسليم المطلق.

يقول علاء بن كامل: كنت جالسا عند أبي عبدالله، عليه السلام، فَصَرَخَت صارخةٌ من الدار، فقام ابو عبدالله ثم جلس فاسترجع، وعاد في حديثه حتى فرغ منه، ثم قال: “إنا لنحب أن نعافى في انفسنا واولادنا واموالنا، فإذا وقع القضاء فليس لنا أن نحب ما لم يحب الله لنا”.

أما أكبر حادثة تبين فيها تسليم الإمام الصادق، عليه السلام، لقضاء الله عز وجل، ماحدث عند موت ولده الأكبر اسماعيل، وكان ممن تقرر عين الامام به، بل إن البعض كان يظن أنه هو الامام بعد الصادق، وكان موته سريعا ومفاجئا وحسب الاحاديث فإن الامام كما يُروى: “حزن عليه حزنا شديدا عظيما”.

فعن أبي كهمش قال: حضرت موت إسماعيل بن أبي عبدالله عليه السلام، فرأيت أبا عبدالله وقد سجد سجدة فأطال سجوده.

ثم رفع رأسه فنظر قليلا، ونظر الى وجهه ثم سجد سجدة أخرى أطول من الأولى، ثم رفع رأسه وقد حضره الموت فغمّضه وربط لحييه، وغطّى عليه ملحفة، ثم قام وقد رأيت وجهه وقد دخله منه شيء الله أعلم به.

ثم قام فدخل منزله فمكث ساعة، ثم خرج علينا مدّهنا مكتحلا، عليه ثياب غير الثياب التي كانت عليه، وجهه غير الذي دخل به، فأمر ونهى في امره حتى إذا فرغ دعا بكفنه، فكتب في حاشية الكفن: اسماعيل يشهد أن لا إله إلا الله”.

🔺 مع كل الحزن الشديد للإمام على ولده إسماعيل، فإنه كان مسلماً أمره إلى الله مطيعاً، وكانت نفسه مطمئة بقدره، راضية بقضائه، مولعة بذكره ودعائه، مشتاقة إلى فرحة لقائه، وتلك هي عادة أولياء الله العظام

ثم دعا بطعامه وقعد مع ندمائه، وجعل يأكل أحسن من أكله سائر الأيام، ويحث ندماءه ويضع بين أيديهم، ويعجبون منه أن لا يرون للحزن أثراً، فلما فرغ قالوا: يابن رسول الله، لقد رأينا عجباً، أصبت بمثل هذا الابن، وأنت كما ترى؟!

فقال: وَمَا لِي لَا أَكُونُ كَمَا تَرَوْنَ وَقَدْ جَاءَنِي خَبَرُ أَصْدَقِ الْقَائِلِينَ أَنِّي مَيْتُ وَإِيَّاكُمْ، وَأَنَّ قَوْماً عَرَفُوا الْمَوْتَ فَجَعَلُوهُ نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ، وَلَمْ يُنْكِرُوا مَنْ تَخَطَّفَهُ الْمَوْتُ مِنْهُمْ، وَسَلَّمُوا لِأَمْرِ خَالِقِهِمْ».

وأضاف: “أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ هَذِهِ الدُّنْيَا دَارُ فِرَاقٍ وَدَارُ الْتِوَاءِ لَا دَارُ اسْتِوَاءِ عَلَى أَنَّ فِرَاقَ الْمَأْلُوفِ حُرْقَةٌ لا تُدْفَعُ، وَلَوْعَةٌ لا تُرَدُّ، وَإِنَّمَا يَتَفَاضَلُ النَّاسُ بِحُسْنٍ الْعَزَاءِ وَصِحَةِ الْفِكْرِ، فَمَنْ لَمْ يَنْكَلْ أَخَاهُ ثَكِلَهُ أَخُوهُ، وَمَنْ لَمْ يُقَدِّمْ وَلَداً كَانَ هُوَ الْمُقَدَّمَ دُونَ الْوَلَدِ».

ثم تمثل بقول أبي خراش الهذلي يرثي أخاه:

ولا تَحْسَبِي أَنِّي تَنَاسَيْتُ عَهْدَهُ

وَلَكِنَّ صَبْرِي يَا أُمَيْمُ جَمِيلٌ

ثم إن الإمام اشترك في تشييع إسماعيل وتقدم سريره بغير حذاء ولا رداء، وأمر بوضع سريره على الأرض مراراً كثيرة، وكان يكشف عن وجهه وينظرإليه يريد بذلك تحقيق أمر وفاته.

ومع كل هذا الحزن الشديد للإمام على ولده إسماعيل، فإنه كان مسلماً أمره إلى الله مطيعاً، وكانت نفسه مطمئة بقدره، راضية بقضائه، مولعة بذكره ودعائه، مشتاقة إلى فرحة لقائه، وتلك هي عادة أولياء الله العظام.


  • مقتبس من كتاب “ذلكم الإمام جعفر الصادق عليه السلام”.

عن المؤلف

آية الله السيد هادي المدرسي

اترك تعليقا