رأي

نرفض ونطالب

أضم صوتي الى أصوات المعترضين والرافضين لإقامة مهرجان غنائي في مدينة الحلّة (بابل)، واستنكار العمل اللافنّي واللاثقافي لوزارة الثقافة العراقية بدعوة مطربين من خارج العراق للغناء في أرض تسمو على هكذا أعمال بحضارتها وعلومها وثقافتها وقيمها الدينية، وهي نقطة فشل تسجل على هذه الوزارة بإقرارها بشكل غير مباشر بفقرها الثقافي، وانفصامها من القاعدة الجماهيرية، والتراث والهوية الحقيقية للعراق، على الاقل كان يفترض بهذه الوزارة التشجيع على الفن العراقي في مهرجان يعكس وجه الحضارة في العراق، من خلال المسرح الهادف، والخط، والشعر، والإنشاد، والرسم، والخطابة ليعرف العالم ما لدى العراق من كفاءات وطاقات في هذا المجال، وهي كانت متألقة في سالف الزمان ثم خفتت لاسباب كثيرة.

هنا استذكر جملة ذكرها الصحفي الفلسطيني المغدور؛ نزار بنات –رحمه الله-، وهو ينتقد الجبهة المقابلة لجبهة المقاومة في المنطقة، بأن “هنالك قاعدة وجودية في السياسة؛ إن لم تكن لديك خطة فأنت مجبر على القبول بخطة الآخرين”.

فماذا يوجد في مدينة الحلّة التي كانت يوماً ما حاضرة العلم والمعرفة والأدب؟

نقرأ عن حوزة علمية سبقت حوزة النجف الأشرف ظهرت فيها قامات علمية مثل؛ المحقق الحلّي والعلامة الحلّي، كما نقرأ عن عائلة الحلّي التي خرّجت شاعر مفوّه ومصقع مثل؛ السيد حيدر الحلّي ومن قبله؛ والده، السيد سليمان الحلّي، وشعراء آخرين من هذه العائلة، أغنوا المكتبة الأدبية بدواوين زاخرة بالأدب الرفيع والهادف والمدوي، فأين هذه الحوزة، و أولئك الشعراء والعلماء الأفذاذ من الذاكرة العراقية؟

في بريطانيا نبشوا بين الاطلال والأزقة الضيقة عن بقايا آثار للأديب تشارلز ديكنز، فاعلنوا ذات مرة بأنهم عثروا على منزله في إحدى أزقة لندن القديمة، فحولوها الى معلم أثري يؤمّه الاطفال والشباب للتعريف بتراثهم الأدبي والثقافي.

وإن لم يكن لدينا معالم تذكر من بناء لمدرسة علمية قديمة، أو بيت لأديب، بالامكان إقامة ندوات مفتوحة في الهواء الطلق، وفي مناطق شعبية للحديث عن هذه المواضيع والشخصيات بما يجعلها حيّة نابضة في النفوس، كما يجري الحديث عن تفاصيل واقعة الطف في مدينة كربلاء، وكل مكان بالعالم، من على المنابر، و نرى النجاح الباهر والمؤثر بما لا يجادل فيه أحد.

عندما تكون الحلّة؛ مدينة العلم والعلماء والأدباء والحضارات، فارغة من أي نشاط يبعث الروح في كل هذه المفردات فلا نتوقع أن يكون الآخرين جالسين مثلنا دون عمل، مع وجود أصحاب رساميل ومشاريع تجارية، الى جانب أصحاب مشاريع ثقافية، مستفيدين من أجواء الحرية و”الديمقراطية”.

ذات الأمر ينطبق على مدينة كربلاء المقدسة، و ربما لا أكون مبالغاً في جهل عدد كبير من الناس الذين يتجولون ويجلسون حول مرقدي الإمام الحسين وأخيه أبي الفضل العباس، بما جرى بالتفصيل على هذه الارض يوم عاشوراء، ولماذا حصل الذي حصل؟! سوى معلومات عامة عن اشخاص مثل؛ يزيد، أو الشمر، أو الامام الحسين، والاصحاب الذين قاتلوا معه. وإلا من  المفترض ان تُحيا صور ومشاهد ومواقف تمثل الحياة الانسانية برمتها، فعندنا صفات الرجولة من شجاعة، ووفاء، وإيثار، كما عندنا الإيمان العميق والصادق، كما عندنا الأنوثة الصامتة في الفتاة (سكنية)، والصبر (زينب)، و تحدي الإعاقة (الامام زين العابدين)، كما لدينا بصيرة الأم، رغم حنانها وعاطفتها (أم الولد الصغير الشهيد)، وايضاً؛ نضج وتفهّم الزوجة (زوجة زهير بن القين، و زوجة وهب المسيحي)، وأكثر من ذلك لدينا شجاعة الطفل وجرأته أمام فرسان ومقاتلين محترفين على القتل والذبح. وفي الجهة المقابلة لدينا صور ومشاهد ومواقف تتناقض مع كل تلكم القيم والمبادئ، بما نعد القارئ الحصيف أدرى وأعرف بها، وهي ايضاً بحاجة الى بعث الروح فيها ليعرف الناس السبب الذي يجعل الانسان يرتكب جرائم وأعمال كالتي وقعت في كربلاء عام 61 للهجرة.

وأنا على يقين بأن أول مذهول من عودة الروح الى تلكم المشاهد والمواقف، هو ذلك الشاب الذي يرقص في شوارع كربلاء، أو تلك الفتاة التي تظهر مفاتنها وأنوثتها بالقرب من مرقد الامام الحسين، وبالقرب من المخيم الحسيني، حيث كانت نساء وفتيات الامام الحسين يوماً ما، من هول ما يسمعونه ويرونه من خلال فعاليات فنية وثقافية.

الحديث عن قدسية مدينة كربلاء وسائر المدن التي تضم مراقد الأئمة والأولياء الصالحين، بل حتى مكة المكرمة والمدينة المنورة، و أية بقعة مقدسة بالعالم، أرى انها خطوة متأخرة جداً، مع الفخر والاعتزاز بكل الجهود المبذولة من المؤسسات الدينية والفعاليات الحسينية، من مجالس ومنابر ومحافل وبرامج تحت لواء “الشعائر الحسينية”، وفي مناسبات اخرى، إنما نحتاج خطوات متقدمة جداً نحو بعث هذه الروح ليس فيمن يعيش في كربلاء والعراق، وإنما لتصل الى جميع بقاع العالم، ولا يقتصر الأمر في أيام معدودة بالسنة، وإنما يستمر طيلة ايام السنة، فهل قيم الصدق والوفاء والتضحية والعفّة والحشمة مقتصرة لأيام معدودة في حياة الانسان؟

ما جرى ويجري حالياً في مهرجان بابل تعرض لانتقادات واسعة على وسائل التواصل الاجتماعي –فقط- ومن شريحة معروفة بالتزامها الديني والاخلاقي، وتحمل مسؤولية رسالية في الحفاظ على القيم والمبادئ، ولكن؛ عندما يحمل عامة الناس روح هذه القيم في نفوسهم وتكون جزءاً من شخصيتهم وحياتهم، كما هو الحال بالنسبة للكاسب والتاجر في السوق، وكما هي الشهادة الاكاديمية بالنسبة للطالب والطالبة المتخرجين من الجامعة، ليس فقط سيكونوا معترضين ومحتجين فقط، وإنما لن يشهدوا بالأساس ما يثير احتجاجهم إلا القليل من بعض المحاولات المستميتة والبائسة، وليس كما نراه اليوم من حضور جريء ومدعوم حكومياً.

عن المؤلف

محمد علي جواد تقي

1 تعليق

اترك تعليقا