حدیث الناس

الانتحار والإشارة الخضراء!

شكى أحد الاصدقاء، وهو طبيب مقيم في احدى المستشفيات من ازدياد حالات الانتحار حرقاً لاسيما بين الفتيات والنساء مما يرسم صورة فورية في الاذهان عن تفاقم المشاكل وغياب الحلول في مجتمعنا؛ ليس العراقي وحسب، وبل معظم مجتمعاتنا الاسلامية، -إن لم نقل جميعها-، وفي مقدمتها؛ العنف الأسري، وتفاقم حالة الكآبة والبؤس من فشل عاطفي، أو فشل في الدراسة، الى جانب اسباب أخرى يعزوها المختصون منها؛ الفشل المهني والخسارة في العمل.

بيد أن السؤال الذي يقفز هو الآخر على طاولة البحث في أمور كهذه؛ وهل المشاكل الأسرية جديدة على الناس حتى يكون الانتحار الطريق الوحيد للتخلص منها؟ ألم تكن هذه المشاكل طيلة المئة سنة الماضية ـ على  الأقل-؟ فهل كنّا نسمع عن حالات انتحار الشاب أو الشابة، او الزوجة بسبب العنف الأسري، أو عدم الاستجابة للزواج خارج إرادة الأبوين؟

منظمة الصحة العالمية التي تتابع هذه الظاهرة فانها، وبالتعاون مع الاتحاد العالمي للصحة العقلية، والرابطة الدولية للوقاية من الانتحار، حددت العاشر من ايلول كل عام يوماً عالمياً للوقاية من الانتحار، في اشارة واضحة الى أن هذه المنظمة الدولية التابعة للأمم المتحدة، تعد الظاهرة مشكلة صحيّة، بالدرجة الاولى، ذات صلة بالامراض النفسية، والادمان على المخدرات والمسكرات، وفي الارقام المنشورة في وسائل الاعلام عن منظمة الصحة العالمية تبين أعداد المنتحرين، ومتوسط العمر، والطبيعة الاجتماعية للبلدان، فعندما تتحدث عن 800ألف انسان ينتحرون كل عام، وحالة انتحار كل اربعين ثانية في العالم، وأن معدل الاعمار بين 15الى 29عاماً.

 

من محاسن نظامنا الاجتماعي تميزه بالبدائل والحلول مع أي فشل أو إخفاق، وفي أي مجال بالحياة، بدءاً بتربية الطفل، مروراً بالدراسة والعلاقات الأسرية، والزواج، ومن ثم العلاقات الزوجية، وحتى العلاقات الاجتماعية

 

فانها تتحدث عن الاضطرابات النفسية مثل؛ “الكآبة والادمان على الخمور، انهيار القدرة على التعامل مع ضغوط الحياة مثل المشاكل المالية، او انهيار العلاقات العاطفية”، ثم تربط الأمر بالجانب الاقتصادي، والحديث عن “الدول ذات الدخل المحدود، والدول ذات الدخل المرتفع”، فالدول ذات الدخل المحدود يكثر فيها انتحار النساء، بينما الدول ذات الدخل العالي يكثر فيه انتحار الرجال!

هذه الاسباب ربما تكون من الدوافع التي تجرئ الانسان على إزهاق روحه بنفسه، بيد إن معطيات الواقع الاجتماعي في بلداننا بشكل عام لا تؤكد كون هذه الاسباب قاعدة عامة نبني عليها ثم نستخرج الحلول على اساسها، فالشريحة الفقيرة والمعدمة واسعة في بلداننا، وهي تكابد المحن والعوز، ليس في لقمة العيش، بل حتى في توفير الدواء لمرضاها، وتكاليف الدراسة لابنائها، مع ذلك لا تنتشر فيها حالات الانتحار، بقدر ما نشهد الحيوية في الاسواق والشوارع، وكيف أن الاطفال والنساء، فضلاً عن الرجال يتحركون بقوة ونشاط لكسب لقمة العيش، مع متابعة الفروض المدرسية، كما نلاحظ ذلك في الباعة الاطفال على الأرصفة، وحتى المشاكل الأسرية المعروفة، هي الاخرى لم تكن يوماً الدافع القوي للشاب او الشابة لأن يسكب على جسمه البنزين او النفط الابيض ويحرق نفسه.

 

  • حصانة المجتمع والابواب المتعددة

من محاسن نظامنا الاجتماعي تميزه بالبدائل والحلول مع أي فشل أو إخفاق، وفي أي مجال بالحياة، بدءاً بتربية الطفل، مروراً بالدراسة والعلاقات الأسرية، والزواج، ومن ثم العلاقات الزوجية، وحتى العلاقات الاجتماعية، بل وحتى العلاقة المعنوية بين الانسان الفرد، وخالقه جلّ وعلا، فمن أول يوم من تكليفه الشرعي، وحتى ساعة مماته لن توصد أمامه الابواب للتوبة والإنابة الى الله ـ تعالى-، بل جاء التحذير في القرآن الكريم بأن: {وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ}، فمن يفشل في الدراسة، أمام ابواب العمل مفتوحة على مصراعيها، ومن لم ينجح في زواجه بامكانه الانفصال في اللحظات الاخيرة وعند فقدان آخر أمل بالإصلاح والتغيير، وهكذا جميع جوانب الحياة.

الروح الايجابية التي يستشعرها الانسان تعود بفضلها الى النظام الاجتماعي والتربوي في الاسلام، ولعل جملة “الله كريم”، ليست عفوية او اعتباطية على الألسن، فهي تنطوي على دلالات ثقافية عميقة تكشف عن مشاعر الثقة والايجابية في النفس، وحالة من الرضى قائمة على الصبر والقناعة والشكر وغيرها من القيم السماوية، وأن الانسان المُعسِر في أي جانب من حياته، لن يكون وحده، ولن تغلق الابواب بوجه دون مخرج الى سبيل.

هذا ما يتعلق بالمشاعر الداخلية بين الانسان ونفسه، ثم تأتي مشاعر الأخوة الايمانية، ضمن المنظومة الاخلاقية – الاجتماعية بتفعيل قيم الإحسان، والانفاق، والتكافل، والتعاون، مما يشعر الانسان بقيمة وجوده في الحياة، و إن وجوده في الحياة ذا معنى مهما كان وضعه المعيشي والاقتصادي.

ومن الناحية الشرعية، فان الاسلام فتح أبواب الحلول والبدائل بشكل يغلق جميع ابواب اليأس والاحباط والفشل، لاسيما ما يتعلق بالمشاكل الزوجية والأسرية، وذلك من خلال منظومة أحكامية مطابقة للفطرة الانسانية، تعطي كل ذي حقٍ حقه، {لا تظلمون ولا تُظلمون}.

 

  • الإشارات الخضراء نحو الهاوية!

حصل أن سمعنا ذات مرة بانتحار شاب بسبب فشل عاطفي، فانبرى أحد القريبين في السيارة التي كانت تلقنا بالقول: “إنه لإنسان نبيل! أمات نفسه ليريح الآخرين”!!

حدث هذا قبل حوالي اثني عشر سنة، وقبل أن تقتحم منصات التواصل الاجتماعي بيوتنا وغرف ابنائنا، بما يكشف وجود نمط من التفكير لدى بعض “المثقفين” الذين يعززون مشاعر الأنا وعبادة الذات دون النظر الى المحيط الاجتماعي ومشاركة الآخرين في الحلول، وإن كلّف هذا روح الانسان، فلا بأس من ذلك، فهو يموت بطلاً لنفسه المزهوقة ويكون شاهداً يوم القيامة على خسارته دنياه وآخرته.

 

من الناحية الشرعية، فان الاسلام فتح أبواب الحلول والبدائل بشكل يغلق جميع ابواب اليأس والاحباط والفشل، لاسيما ما يتعلق بالمشاكل الزوجية والأسرية، وذلك من خلال منظومة أحكامية مطابقة للفطرة الانسانية، تعطي كل ذي حقٍ حقه، {لا تظلمون ولا تُظلمون}

 

وقد جاءت الافكار والتلميحات في عديد مواقع الانترنت بأفضلية ان يأخذ الانسان زمام مشاكله وأزماته بنفسه، وإن هاجت وماجت عليه، ففي الآخر هو المسؤول عن الحل، وعن الفشل، وعن تحقيق السعادة، او السقوط في الشقاء.

هذه الافكار تستهدف بنات حواء بالدرجة الاولى، عندما يرسمون صورة وهمية للمرأة او الفتاة المنبوذة في المجتمع، والمدانة في كل الاحوال، والمشكوك في أمرها، مما يجعلها أمام طريقين لا ثالث لهما مطلقاً؛ إما الانتصار على المحيط الاجتماعي وتحقيق ما تريد ـ بغض النظر عن المحتوى- أو تنفي وجودها من هذا المحيط بما يوحي بنوع من الانتقام غير المباشر من الزوج، أو الأب، فهي قبل أن تحرق نفسها، او تضع الحبل على رقبتها، او ترمي بنفسها في الماء، تستحضر صور العزاء والألم والصدمة، وحتى الإحراج الذي سيلمّ بالأب والأهل نكالاً بما منعوهم من تنفيذ ما يريدون وما يحلمون به!

هذه الإشارة الخضراء المؤدية الى الهاوية والهلاك، تحتاج إشارات خضراء عديدة من الآباء الأزواج، وجميع افراد المجتمع أمام الطامحين من الشباب والشابات بوجود البدائل لحياة أفضل مع الاحتفاظ بالروح التي وهبها الله ـ تعالى- للانسان ليعيش الحياة الدنيا ويتمتع بالنعم والمواهب الى حين الأجل المكتوب من قبله، جلّ وعلا، حتى نربح جميعاً خير الدينا والآخرة. وصدق الرب الكريم قوله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}.

عن المؤلف

محمد علي جواد تقي

اترك تعليقا