ثقافة رسالية

 نهج البلاغة والحياة( 37) القاعدة الذهبية للإنفاق

قال أمير المؤمنين، عليه السلام: “كن سمحا ولا تكن مبذرا وكن مقدّرا ولا تكن مقتّرا”

مسألة الانفاق وحدوده هي المسألة الاكثر جدلا في المجتمعات البشرية، سواء على مستوى الافراد او على مستوى الحكومات والجماعات، فكيف ننفق؟ وكيف نوزّع الاموال؟ وكيف نحدد الميزانية؟ وما هي القاعدة الذهبية في ذلك؟

تلك التساؤلات ترجع الى أن الاقتصاد عصب حياة الانسان، كما انه عصب حياة المجتمعات والحكومات، “ومن لا معاش له لا معاد له”، ذلك إن الحياة قائمة على اساس المال والاقتصاد، ولا يمكن الغاؤها، إنما لابد ان نسير وفق طريقة سليمة، فالالغاء أمر لا يكون، ولا أراده الله ــ عزوجل ــ.

و الاسلام أراد المال محكوما لا حاكما، لان المال قد يصبح حاكما وقد يصبح في مجتمع معين محركا للتاريخ، وقد يكون هو الذي  يحدد حتى افكار الناس ورؤاهم، وعلاقاتهم وهذا هو الخطأ.

⭐ المال ــ عادة ــ في المجتعمات التي لا تلتزم بالقيم والمبادئ، إما ان يضيع في الإفراط او في التفريط، فقد يضيع في التبذير والاسراف

فالمال لابد ان نأخذ أمره بالحسبان لكن بشكل يكون محكوما لا حاكما، لان المال ــ عادة ــ في المجتعات التي لا تلتزم بالقيم والمبادئ، إما ان يضيع في الإفراط او في التفريط، فقد يضيع في التبذير والاسراف، وإما ان المال لا يستفاد منه بسبب التقتير والبخل، فالمال إما أن يُصرف على الصيد والزينة واللهو، وبناء ما لا يحتاج اليه الانسان، وإما أن يضيع في الصناديق الحديدة في البنوك، وكلاهما تضييع للمال.

الانسان إما ان يعطي من ماله ليصبح فقيرا او يخزن ماله فيكون فقيرا، فكلاهما له نتيجة واحدة وهو الفقر، وعدم الاستفادة من المال، لان المال إذا اُعطي لمن لا يستحق او اعطي لما لا يُستَحق كأن يُعطى لانسان لا يستحقه، او لشيء لا يستحقه، ولا حاجة اليه فيكون ذلك المال اسرافا وتبذيرا، وإذا مُنع المال عمن يستحقه، او منع عن صرفه فيما يجب أن يُصرف فيه فذلك تقتيرا وبخلا، وكلاهما تضييع للمال.

البشرية غنية؛ فهي تمتلك من الذهب والفضة والمعادن الشيء الكثير، فلو جمعنا كلما يوجد على وجه الارض من العملة ومعها الذهب لكان شيئا كثيرا، ولكننا نرى ان المال ضائع في المجتمعات، ذلك لان المال إما ان يصرف على موائد الخمر، والفساد، والزينة وما شابه ذلك، واما ان يودع في البنوك، فالولايات المتحدة الامريكية تصرف الميليارات على السلاح،  وهذا المال لو تحول الى بيوت وفلل لكفى كل عائلة على وجه الارض فلة وبيتا واحدا، في مقابل تلك الاموال وصرفها على التسليح، يموت كل عام خمسمائة مليون انسان من الجوع بناءً على تقارير الامم المتحدة، مما يعني يموت اربعون ألف طفل وطفلة من الجوع وسوء التغذية، وحسب تقارير الامم المتحدة فإن حاجة افريقيا تحتاج الى اكثر من مليار طن من الحبوب والقمح كل سنة.

هكذا يتم التعامل مع المال، والماضي لم يكن أفضل حالا من الحاضر، فالملوك والأمراء إما كانوا يقتّرون فيمنعون المال عن أهله، وإما يبذرونه، فحينما تزوج هارون العباسي من زبيدة أهداها زوجي نعال من الذهب مرصعا بالجواهر قيمتهما مئة ألف دينار في حينه.

 وفي ذات حكم هارون، رأى احد العلماء، وكان يروم السفر الى الديار المقدسة، رأى امرأة تغسل دجاجة ميتة قد أخذتها من المزبلة، فقال: يا أمةَ الله ماذا تفعلين بها؟

فقالت: اطعم بهذه الدجاجة الميتة أولادي، وهم ايتام وانا أرملة.

قال لها: هذا حرام (أي اكل ميتة الدجاجة)

قالت: وما الذي أفعل!

فهارون ينفق الملايين لحفلة راقصة والناس جياع، هذا على مستوى الآخرين فماذا عنّا؟

  • الميزان الشرعي للإنفاق

أنا كإنسان لابد أن اسير في انفاقي للدرهم الواحد، او لمليون درهم، وفق قاعدة شرعية، قد نصرف أموالا كثيرة على حاجة تافهة، بينما حاجة اساسية في حياتنا لا نصرف عليها، فهذا تبذير من جهة وتقتير من أخرى، فما هو القانون في الصرف؟

وما هي القاعدة الذهبية في العطاء؟

الانفاق كلمة تكشف عن معناها بنفسها متَخَذَة من النفق ويعني الحفرة او الثقب، كما ان الحفرة بحاجة التراب والى الردم، فإذا وضعنا التراب في غير مكان الحفرة لصنعنا عقبة وبقيت الحفرة في مكانها، فلابد ان نرمي التراب داخل الحفرة حتى تصبح الارض سوية، كذلك المجتمعات لابد ان يكون الانفاق عند الحاجة ولمن يستحق، وحينئذ يكون المجتمع سويا، وإلا يكون مثالا لقول أمير المؤمنين، عليه السلام: “ما رأيت نعمة موفرة إلا والى جانبها حق مضيّع”.

ولكي نفهم هذا الكلمة بعمقها، وارتباطها بكل مسلم، لابد ان نتعرف على معاني الكلمات؛ “التبذير، التقتير، السماحة، التقدير”، أربع كلمات استعملها أمير المؤمنين، عليه السلام، في الرواية التي توجنا المقال بها.

  • ما هو التبذير؟

يقول الله: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً}، الذين يبذرون اموال المسلمين على موائد الخمور، وبناء القصور واليخوت، وكأن المال لهم، فلو لم يكن عند الملوك والرؤساء الذين يدعون الاسلام إلا أنهم مبذرون لكفى وجوبا الثورة عليهم.

قال الإمام الصادق، عليه السلام: “إن مع الاسراف قلّة البركة”، عن معاذ بن جبل قال: سألت رسول الله، صلى الله عليه وآله، عن الاسراف والتقتير، قال رسول الله: “من اعطى من غير حق فقد اسرف ومن منع من غير حق فقد قتّر”.

⭐ كإنسان لابد أن اسير في انفاقي للدرهم الواحد، او لمليون درهم، وفق قاعدة شرعية

والتقتير بخلاف ذلك، قال ــ تعالى ــ: {قُلْ لَوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُوراً}، قلب الانسان يتعلّق بالمال، فحينما يكون عنده دينار واحد فبحجم الدينار قلبه متعلقبه، وهكذا عندما يصبح عنده اكثر يكون تعلقه اكثر، قال أمير المؤمنين، عليه السلام: “عجبت للبخيل يستعجل الفقر الذي منه هرب ويترك الغناء الذي اياه طلب”، وقال عليه السلام: “أفقر الناس من قتر على نفسه وخلفه لغيره”.

وهناك يبخل فيما ليس له، قال أمير المؤمنين عليه السلام: “من بخل بما لا يملكه فقد بالغ في الرذيلة”، ذات مرة أنفق أمير المؤمنين، عليه السلام، من الاموال على الفقراء، وكان هناك رجل جالسا، فعاب على أمير المؤمنين ذلك الكرم، فقال أمير المؤمنين، عليه السلام: لا كثّر الله في المؤمنين أمثالك أعطي أنا وتبخل أنت”، بعض الناس بدل ان يشجعوا صاحب الكرم على كرمه، يسعون الى تثبيط عزيمته. وفي رواية “ما اقبح البخل بذوي النبل”.

بقي مفردتين هما؛ السماحة والتقدير، نتناولها في المقال التالي من هذه السلسلة.

عن المؤلف

هيأة التحرير

اترك تعليقا