ثقافة رسالية

نهج البلاغة والحياة (44) حتى نعيش بعيدين عن الحمقى

قال أمير المؤمنين، عليه السلام: “أكبر الفقر الحُمق”.

ما هو الحُمق؟

ومَن هو الأحمق؟

ولماذا يعدّه أمير المؤمنين من أكبر الفقر؟

وماذا يجب علينا تجاه الحُمق؟

العاقل هو الذي يستعمل الموهبة الالهية والسراج السماوي الذي زوّده الباري للإنسان في هذه الحياة وهو العقل، أما الاحمق فهو على العكس من ذلك فهو الذي يُعطل العقل، تماما كالذي زوده الله بالعين لكنه لا يبصر ولا يرى الاشياء بها، وكذا في بقية المواهب الالهية التي اعطاه الله إياها لا يستعملها في شيء!

فذلك السائق الذي يقود السيارة فبدل ان ينظر امامه في الشارع لا شك ان سيصطدم بحائط، هذا السائق لا يختلف عن الذي زوده الله بالعقل لكنه لا يستعمله، واعطاه الله التفكير لكنه لا يفكّر، ويملك التدبير لكنه لا يتدبر، إذاً فالحُمْق هو ركوب الجهل والتعصب وتعطيل العقل.

🔺 الانسان حينما يصبح احمقا سيكون أفقر إنسان حتى لو ملك أموال الدنيا كلها، وحينما يصبح عاقلا يكون أغنى إنسان ولو لم يملك الأموال

والانسان حينما يصبح احمقا سيكون أفقر إنسان حتى لو ملك أموال الدنيا كلها، وحينما يصبح عاقلا يكون أغنى إنسان، وأمير  المؤمنين، عليه السلام، في هذه الرواية الرائعة يعطينا النتيجة، أما كيف يكون الانسان عاقلا فهذا ما يجب علينا أن نبحث عنه.

وهنا نطرح السؤال: ما هي صفات الأحمق؟

  • الأولى: الاحمق هو ذلك الانسان الذي لا يفكّر في العواقب

 سواء كانت عواقب عمله، او مواقفه، او كلامه، قال أمير المؤمنين، عليه السلام: “ركوب المعاطب عنوان الحماقة”، الذي يركب كل شيء يؤدي به العَطَب وهذا فعل الاحمق، فالذي لا يعرف كيف ينزل من الجبل لا يمكن ان يصعده، والذي لا يستطيع ان يتحمل صعوبةً لا يتحمل مسؤولية.

إنك تستطيع أن تميّز الاحمق من العاقل من خلال تصرف طفلَين؛ طفل دائما يورّط نفسه يصعد الى مكان لا يمكن ان ينزل منه، وباعتباره طفل فله عذره، ولكن ما شأن الكبير الذي  يدخل في قضية لا يعرف الخروج منها.

هنالك إنسان آخر يُلقي الكلام على عواهنهِ؛ أي لا يفكر عاقبته، يقول ويحرك لسانه من دون أن يحسب أنه مسؤول عن كلامه، يقال: ان رجلا قال: ان اسم الذئب الذي  اكل يوسف كذا وكذا، فقيل له: يا هذا إن يوسف لم يأكله الذئب. فقال الرجال ان هذا اسم الذئب الذي لم يأكل يوسف.

  • الثانية: الأحمق يرى نفسه أحسن الناس

وفي هذه الحالة لا يستفيد منهم ومن تعاونهم ومن عقولهم، ذلك ان الله ــ عز وجل ــ قسّم العقول على الناس بالتساوي، فمن يريد ان يكون أعقلَ الناس لابد وأن يستفيد من عقول الآخرين، قال أمير المؤمنين، عليه السلام: “من شارور الرجال شاركهم في عقولهم”، وقال: “أحمق الناس من ظنّ انه افضل الناس”.

وفي  الحديث عن عيسى بن مريم قوله: داويتُ المرضى فشفيتهم بإذن الله وأبرأتُ الاكمه والأبرص بإذن الله ولكني عجزت عن معالجة الاحمق.

قيل: ومن الأحمق يا روح الله؟

فقال: المعجَب برأيه ونفسه الذي يرى الفضل كله له لا عليه ويوجب الحقَ كله لنفسه ولا يوجب عليها حقا فذلك الأحمق الذي لا حيلةَ في مداواته.

ولذا يجب على الانسان ان يعرف انه  له حق وبمقدار ما له من حق عليه واجب، فحجم المسؤولية بمقدار الواجب، فكما انه له حقوق على الناس، فعليه واجبات للناس، والذي ينظر بهذه النظرة هو الانسان العاقل.

  • الثالثة: الاحمق هو الذي يصدق كلما يسمع أو يرد كلما يسمع

 الاحمق لا يمتلك ميزانا يوزن به كلام المتكلمين؛ فإما يرد دائما، او يقبل دائما، قال أمير المؤمنين، عليه السلام: “لا ترد على الناس كلما حدثوك فكفى بذلك حمقا”، وقال: “إذا اردت ان تختبر عقل الرجل في مجلس واحد فحدثه خلال حديثك بما لا يكون فإن انكره فهو عاقل وإن صدقه فهو احمق”.

  •  الرابعة: الاحمق له صلافة

فأنت لابد وأنك رأيت بعض الافراد كيف ان تعامله يتسم بالصلافة والعنجهية، فيعنّف في غير مكان العنف، فإذا تكلم مع أحد لا يسمع كلامه بل ويرد في وجهه، وهذا نوع من الحماقة، قال أمير المؤمنين، عليه السلام: “من دلائل الحُمق دالة بغير آلة وصلف من غير شرف”.

  •  الخامسة: الاحمق إنسان متلوّن

فتراه كالعصفور يقفز من شجرة الى اخرى، ومن غصن الى آخر، وكل يوم في لون، قال أمير المؤمنين، عليه السلام: “من أمارات الأحمق كثرة تلونه”، فذلك الذي يغيّر مذهبه حسب الظروف والمزاج فهذا أحمق، وهو اشبه بالانسان الذي اراد ان يكتب قصيدة فلم يستطع فغيّر قلمه ودفتره! فالانسان الذي فشل في  هذه الحياة لابد ان يبحث عن اسباب الفشل والأمور التي تؤدي الى النجاح، أما ان يتلون ويبدل دينه ومذهبه وجماعته فهذا هو الاحمق بعينه.

  • السادسة: الاحمق يستخف بالعلم

ذات مرة أحدهم مدح نفسه فقال: منذ عشرين عاما لم افتح كتابا! وهذا استخفاف واضح بالعلم، وبالكتاب، وبالعلماء، قال أمير المؤمنين، عليه السلام: “لا يستخف بالعلم وأهله إلا احمق جاهل”. لان بالعلم يرفع الله به أقواما، فالعلم مثل الطائرة من يركبه يطير، فالمؤمن إذا ركب الطائرة يطير، وكذا الكافر يطير، كما ان من يزرع يحصد سواء كان مؤمنا ام كافرا، أما ان يأتي احدهم ويستخف بالعلم ونتاجه فهذا هو الحُمق بعينه. نحن نرفض الحضارة الغربية ولكننا نرفع من شأن العلم ونحترمه، و العاقل هو الذي يحاول الاسفادة من علوم الآخرين.

  • السابعة: الاحمق يظن ان الناس مثله

فتراه يحتال على الناس، والحياة ليس قائمة على الحيلة، بل هي قائمة على الحق، المحتال قد يحتال يوم ويومين وثالث لكنه في الأخير يُفتضح، “الحيلة ترك الحيلة” فالحيلة الحقيقية ان لا تكون محتالا وهذه هي الوسيلة الصحيحة للنجاح في هذه الحياة، اما الاحمق فيحتال في كل وقت، قال أمير المؤمنين، عليه السلام: “من كمال الحماقة الاحتيال في الفاقة”، فقير ويكذب، ومستعطٍ ويحتال عليك!

  • الثامنة: الاحمق يعمل شيئا ويريد نتيجة أخرى

لكل وسيلة في  هذه الحياة نتيجة من نوعها؛ مَن يزرع التفاح لن يحصد المشمش، ومن يزرع البرتقال لن يحصد الموز، وهذا الامر من المسلّمات عندنا، إلا أنه فيما يرتبط بأمور المجتمع ننسى هذه الحقيقة الواضحة (ان الحصاد إنما يكون من نوع الزرع لا من نوع آخر).

والاحمق يعمل شيئا ويريد نتيجة أخرى، كأن ينام ويريد ان يصبح عالما، ويكسل ويريد تحقيق انتصارا، و الانسان يُبنى في هذه الحياة نتيجة اعماله، قال أمير المؤمنين، عليه السلام: أحمق الناس من يمنع البر ويطلب الشكر ويفعل الشر ويتوقع الخير”، فالاحمق لم يُقدم شيئا للناس وينتظر منهم شكرا!

  • التاسعة: الاحمق الذي ينهى عن اعمال يرتكبها

الناس يحسبون على الانسان انفاسه، فاحيانا يأتيك احدهم ويخبرك ببعض الامور عنك وأنت غير متلفتٍ إليها، والاحمق هو الذي يأمر الناس بترك شيء وهو يقوم بذلك العمل، والناس انفسهم يراقبونه، وعادة المجتمع يتأثر بالفعل اكثر من القول، قال أمير المؤمنين، عليه السلام: “أحمق الناس من أنكر على غيره رذيلة وهو مقيم عليها”.

  • العاشرة: التسرّع في الامور

الاحمق يريد ان يحصد الامور قبل آوانها، كأن يريد حصد العنب قبل ان ينضج، قال أمير المؤمنين، عليه السلام: “تعرف حماقة الرجل في ثلاث: “كلامه فيما لا يعنيه وجوابه عما لا يُسأل عنه وتهوره في الأمور”.

البعض تراه يتكلم في كل شيء، ويحاول إقحامَ نفسه في كل حديث، والبعض متهور في الامور، صحيح ان المطلوب منا ان نُسرع في الخطى، ولكن ليس مطلوبا منا ان نتجاوز، يقال في العلم: الحياة لا يمكن تجاوزها.

🔺 حينما نتكلم عن صفات الاحمق يعني ان نتجب تلك الصفات التي فيه، وأن نعيش مع الناس عيشة العقلاء لا إفراط ولا تفريط

 الحياة قائم على اُسس وسنن لا يمكن تجاوزها، فلا يمكن للإنسان ان يقفز قفزةً كبيرة إلا ويتكسر جسمه، أما ان تحاول ان تجني ثمرة قبل ان تنضج فهذا يشبه ان تنزل من الطابق العاشر مباشرة الى الارض، القفزة غير موجودة في هذه الحياة، فمن يريد النجاح لابد عليه ان يُسرع الخطى قال ــ تعالى ــ: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ}.

حتى في الامور الدينية لا يُطلب منك ان تصلي أربعا وعشرين، قال رسول الله، صلى الله عليه وآله: “إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ولا تبغض إلى نفسك عبادة الله فان المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى”. فمن يريد الحصول على الجنة في ليلة واحدة لن يحصل عليها.

 وفي كلمة قصير يصف رسول الله، صلى الله عليه وآله، الأحمق: ” إن صحبته عناّك(أتعبك)، وان اعتزلته شتمك، وإن أعطاك من عليك، وإن أعطيته كفرك، وإن أسررت إليه خانك، وإن أسر إليك اتهمك، وإن استغنى بطر وكان فظا غليظا، وإن افتقر جحد نعمة الله ولم يتحرج، وإن فرح أسرف وطغى، وإن حزن آيس، وإن ضحك فهق، وإن بكى خار، يقع في الأبرار، ولا يحب الله ولا يراقبه، ولا يستحيي من الله ولا يذكره، إن أرضيته مدحك وقال فيك من الحسنة ما ليس فيك، وإن سخط عليك ذهبتْ مدحَتَه ووقع فيك من السوء ما ليس فيك فهذا مجرى الجاهل”.

قالوا: لاحد الحكماء من اين علمت الحكمة؟ قال: من الجاهل. قيل: وكيف ذلك؟ قال: فعل أفعالا فذمّه الناس ولم افعل فعله.

حينما نتكلم عن صفات الاحمق يعني ان نتجب تلك الصفات التي فيه، وأن نعيش مع الناس عيشة العقلاء لا إفراط ولا تفريط، فحين تصادق برفق فلا تبوح له بكل أسرارك، وإذا قاطعته فلن تقيم عليه الحروب أن تكون ذلك الذي يفكّر في العواقب.

إذن؛ الحمق أكبر انواع الفقر، لان الاحمق قد يحصل على ملايين إلا انه يصرفها على التافه، ذلك الحمال ربح ورقة اليانصيب والتي تحوي على ملايين، وحينها سألوه: ماذا تفعل بهذه الاموال؟ فقال: هذه الملايين اشتري بها خبزا وجبنا حتى اتناولهما لأتقوّى على حمل الكثير!


  • (مقتبس من محاضرة لآية الله السيد هادي المدرّسي حفظه الله).

عن المؤلف

هيأة التحرير

اترك تعليقا