ثقافة رسالية

نهج البلاغة والحياة (36) الجسم السليم الوعاء الآمن للقوى العقلية

كان ولا يزال من الأمور التي تُقلق الانسان ما يطرأ على جسمه وقواه من تغييرات وتبديلات رغما عنه، والانسان في مرحلة الطفولة لا يفهم ذلك، لأنه في مرحلة نموٍ وتقدّم وتطوّر، ولهو ولعب.

مرحلة الشباب ينشغل فيها الانسان باستثمار قواه، وينشغل بالحياة الدنيا، لكن بمجرد ضعف بدنه في سنين متقدمة من حياته يبدأ القلق يساوره، حيث انه يشعر بأن ما كان يمتلكه من قوى بدأت تضعف؛ فعينه ضعفت، سمعه يثقل، وبدأت عضلاته بالترهل، ولاح على شعره البياض، وهكذا في بقية القوى التي كان يظن في فترة من فترات حياته انها ملكه، وانها لن تزول، لكنها ما بعد فترة الشباب تبدأ بالزوال شيئا فشيئا.

وعند ضعف أيّة قوية تُشعر بخيبة الأمل التي يشعر بها الفرد بأن قواه تخور، ويجد ان قواه تخونه مثلا يقول: (يدي خانتني)، لان يده وعضلاته فيما قبل كانت طوع أمره، لكن الحقيقة ان القوى الجسمانية لم تخن الانسان، بل هي سُنّة الله ــ عز وجل ــ أن يمر الفرد بمرحلة طفولة، ثم فترة الشباب، ثم مرحلة الشيخوخة وهذا الحال يشبه الفصول الأربعة، وهذه هي دورة الحياة، فتارة يكون ربيع حياتنا، وخريف حياة أناس آخرين، وقد يكون نهاية حياتنا، وبداية حياة آخرين.

⭐ اكثر القوى التي تبقى إذا أولاها الانسان اهتماما هي القوى العقلية والنفسية، فتجد بعض كبار السن واعيا، يقضا الى آخر لحظات حياته

ولأن التبديلات والتغييرات في  قوى الانسان وجسمه تأتي رغما على أنفه وهو لا يريد ذلك، فإن البشرية سعت لمحاولات عديدة لإطالة عمر الشباب، او منع الشيخوخة، لكن لا شيء يقف أمام الشيخوخة، فكما لا يمكن المحافظة على فترة الطفولة كذا لا يمكن إدامة فترة الشباب طويلا، لكن يمكن ان نحافظ على مستوى معيّن من الصحة في كل مرحلة، فهناك أطفال أصحاء، وهناك مرضى، فيمكن ان يُحافظ الاب على صحة أولاده، وكذا في مرحلة الشباب، فتجد شبابا اصحاء عضلاتهم مفتولة، وهناك آخرين مرضى، وهنا يمكن للشاب ان يحافظ على المستوى الجيد من الصحة في هذه المرحلة، والأمر نفسه في مرحلة الكهولة وفيها نوعين؛ منهارِين ويعانون من أمراض، وهناك نوع آخر محافظين على مستوى معين من الصحة.

واكثر القوى التي تبقى إذا أولاها الانسان اهتماما هي القوى العقلية والنفسية، فتجد بعض كبار السن واعيا، يقضا الى آخر لحظات حياته، فقليلا من العلماء سواء كانوا علماء دين او غيرهم اصابهم الخرف، لأنه كان يستخدم قوته العلمية، ومن لم يستخدم القوّة العقلية والعملية ولم يسعَ في تنميتهما لربما في مرحلة متقدمة من عمره يَشيخ عقله قبل جسمه.

 فما دامت قوى الانسان الجسمية تضعف رغما عنه فعليه السعي الى تنمية قواه العقلية بالقوة الجسمية، وما دام الانسان قويا خصوصا في شبابه؛ حيث أنه إذا سهر طوال الليل ولم يحدث له شيئا، وإذا امتنع عن الأكل ولم يصب بالضعف والانهيار فهذا مؤشر ممتاز، ويمكنه استثمار هذه المرحلة العمرية في امتلاك أكبر قدر ممكن من العلم، وذلك عبر زيادة المخزون العملي عبر الفهم والإدراك، وحين يضعف الانسان وتخور قواه الجسمية فعلى أقل التقادير لا يصاب بالخرف، وبعبارة أخرى حين يخبو جمال الانسان على الأقل يكون محتفظا بجمال الروح والعلم، لان الجمال الأول يضعف، والثاني يزداد بتنميته.

من المفارقات بين القوى العقلية والقوى الجسمية ان العقلية يمكن ان تبقى في حالة نمو الى آخر لحظة.

ثلاثة أمور رئيسية تحافظ على قوى الانسان بالحد الأدنى في كل مرحلة:

  • الأول: الرياضة الدائمة

رسول الله، صلى الله عليه وآله، كان كثير المشي مع قطر النظر في عدم وجود وسائل نقل في ذلك الزمن.

ولابد من التأكيد على الاستمرار في الرياضة، فالبعض يمارس الرياضة لساعتين، وبعد ستة اشهر لا حركة لأي عضلة من عضلات الجسم! هناك مثل يقول: في العشر من العمر نملك الجسم الذي مُنحناه، وفي العشرين نملك الجسم الذي صنعناه، وفي الأربعين نملك الجسم الذي نستحقه.

⭐ ما دامت قوى الانسان الجسمية تضعف رغما عنه فعليه السعي الى تنمية قواه العقلية بالقوة الجسمية

الانسان قادر على ممارسة مستوى معين من الرياضة وهذا مطلوب، فلا يجب القول: (ما هي قيمة جسمي!) وليس من الصحيح حالة التصوّف التي تُلغي الجسم، يقول أمير المؤمنين، عليه السلام: “اللهم اجعل سمعي وبصري الوارثَين”. وهنا يطلب بقاء سمعه وبصره الى آخر لحظة، والملاحظ ان يطلب جعلهما وارثين.

لذا من المهم أن نطلب الصحة والسلامة، والامن والأمان، لان القوى العقلية لا يمكن استخدامها بدون وسيلة، فإذا كانت العين مصابة فهل يستطيع الانسان القراءة بها؟ وكذا إذا كان يعاني من ألم في إذنه هل يسمع شيئا؟

  • الثاني: الطعام السليم

وهذا لا يعني أن يُكثر الانسان ــ مثلا ــ من أكل اللحم، وكذلك ترك اللحم لأربعين يوما ليس جيد، يقول الإمام الصادق، عليه السلام: “مَنْ لَمْ يَأْكُلِ اَللَّحْمَ أَرْبَعِينَ يَوْماً سَاءَ خُلُقُهُ وَ مَنْ سَاءَ خُلُقُهُ فَأَذِّنُوا فِي أُذُنِهِ”.

فالكبير في العمر لا يحتاج الى كثرة اللحوم، بل يحتاج الى كربوهيدرات واملاح وفيتامينات، أكثر مما يحتاج الى البروتين، واختيار الطعام السليم مهم جدا في كل مرحلة من المراحل العمرية.

  • الثالث: النوم الهادئ بالمقدار المطلوب في كل مرحلة عمرية

والمقصود من النوم الهادئ هو النوم براحة، وهذا هو النوم الذي يفيد الجسم، لان هناك نوم يتعب الجسم كذلك الذي ينام قلقا ويعاني من مشاكل كبيرة في حياته، هذه أمور ثلاثة تعطي الانسان القوة والنشاط بالحد الأدنى في كل مرحلة من مراحل حياته.

نحتاج الى الوعي بما يجب ان نكون عليه حتى لو كنا ــ الآن ــ في مرحلة الشباب، لان المرحلة العمرية اللاحقة تعتمد بشكل كبير على مرحلة الشباب.


  • (مقتبس من محاضرة لآية الله السيد هادي السيد المدرّسي).

عن المؤلف

هيأة التحرير

اترك تعليقا