أسوة حسنة

الدور الاجتماعي لأبي طالب -عليه السلام- قبل المبعث النبوي

الحديث عن أبي طالب، عليه السلام، حديثٌ عن شخصية مهمة ولها دور كبير في المجتمع القريشي آن ذاك، و أن المتتبع لطبيعة المجتمع قبل بعثة النبي، صلى الله عليه وآله، وبعدها يجد الفرق كبير ما بين طبيعة المجتمعين نظراً لما جاء به النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، من أنظمة سماوية غيرت الكثير مما هو شائع ومما هو معمولٌ، مع عدم انسجامه مع قوانين المنطق والعقل والفطرة الإنسانية، وفي الوقت نفسه لم يشمل التغيير الذي جاء به النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، في دعوته، كل ما هو موجود من قواعد وقوانين وأعراف مجتمعية لانسجامها أو لتوافقها أو لعدم الضرر العمل بها.

ومن هذا المنطلق نجد ان ابو طالب، عليه السلام، له الكثير من المواقف التي تُظهر فيه شخصيته، وتكشف عن طبيعة توجهه الفكري؛ سواء أكان ذلك مع ما يتعلق بأهله وأقربائه، أو مع غيرهم،

  • مصدر تشريع القوانين ذات البعد الإنساني

إن ما توسمت به هذه الشخصية، وما تميزت به، ليس المكانة الاجتماعية أو الموقع الاجتماعي الذي شغلته بعد وفاة أبيه عبد المطلب، بل هو ما فرضه على نفسه و ما عمل عليه بما ينسجم مع المثل الإنسانية في زمان قلت فيه القيود والقواعد التي تكفل الكرامة الإنسانية، كعمل  الخير من أجل الخير، فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويسعى دائباً إلى اجتثاث جذور الضلال والفساد، بعد ان كان قد حرم على نفسه وأسرته شرب الخمور وتعاطي الفجور ولعب القمار، والتزم بمحاربة الرذائل بكل ألوانها وأشكالها التي منها عبادة الأوثان.

⭐ من الأمور التي عمل بها في المجتمع القريشي، والتي تعد بمثابة قاعدة فقهية مهمة وأساس لتنظيم ذلك المجتمع، والحفاظ على طهارته؛ حرمة نكاح المحارم، وحدد الطواف بالبيت سبع مرات، ونهى ان يطوف بالبيت أحدٌ عريان، وحلل قطع يد السارق وحرم الزنا ونهى عن الموؤدة

هناك شاهد على كرامة أبي طالب لصحبته النبي الأكرم في صباه لمسها معاصروه، ففي حرب الفجار، (بين هوزان وكنانة) كان يحضر أبو طالب، ومعه الرسول فمتى حضر كان النصر حليف هوزان، ومتى غاب دارت عليها الدائرة، فطلبت هوزان من أبي طالب: أن لا يغيب عنها: ليواتيها النصر، فكان عند طلبها.

وهذا لا يكشف فقط إيمان المجتمع القريشي به فقط، بل يكشف عن إيمان وتعاطف أبي طالب مع قضايا مجتمعه الذي ينتمي اليه؛ فهو يجد نفسه مسئولا على إيجاد ما يضمن سلامة ذلك المجتمع من خلال التعامل الحكيم، وتقديم الحلول التي تضمن رضا الإطراف، وهو ما نجده حينما قرر أن تكون ديّة المقتول إما ألف دينار، و إما ان تكون مائة رأس من الإبل، يهدف من وراء هذا التثقيل في الديّة خفض نسبة جريمة القتل المنتشرة آنذاك في المجتمع الجاهلي، وقد أقرّها الإسلام ولم يزل معمولاً بها حتى اليوم، والى يوم يبعثون.

كما ان من الأمور التي عمل بها في المجتمع القريشي، والتي تعد بمثابة قاعدة فقهية مهمة وأساس لتنظيم ذلك المجتمع، والحفاظ على طهارته؛ حرمة نكاح المحارم، وحدد الطواف بالبيت سبع مرات، ونهى ان يطوف بالبيت أحدٌ عريان، وحلل قطع يد السارق وحرم الزنا ونهى عن الموؤدة، ولم سيتقسم بالأزلام، ولم يأكل ما ذُبح على النُصب، وسن الوفاء بالنذر، كما انه سنّ القسامة، وهي من الإحكام التي لازال يعمل بها القضاة، وهي اليمين، بمعنى القسم، أي القطع بما يؤمن به صاحب الحق المدعي على المدعى عليه.

  • رجل السلم والأمن الاجتماعي

إن الذي يسنّ هكذا أحكام، وقواعد فقهية اساسية، ليس صعباً عليه ان يتعامل مع القضايا المجتمعية والمشكلات التي تعترضه تعاملاً أساسه العدل والحكمة والسلامة، وكيفية انتزاع المشكلة من الإطراف المتنازعة، لئلا يأخذ أحدهم العزة والغلظة، وهذا ما يسمى بالذكاء الاجتماعي الذي على أساسه معرفة طبيعة الطرف المقابل والتعامل معه وفق ما يتعلق به من الأعراف والتوجهات المجتمعية التي قد تفرض على الفرد أن يُضحي من أجل عدم المساس بكرامته بوصفها خرق لشخصيته، وهو ما تميز به مجتمع شبه الجزيرة العربية من غلظة الشخصية وتقديم الأحكام البدوية وتقديسها على كل الأحكام الأخرى.

⭐ مع وجود الأعراف والقواعد المجتمعية التي تنص على أن الرجل هو من يختار المرأة، نجد هذه القواعد لم تقف أمام فكر أبو طالب، عليه السلام، لما يراه مناسبا وصحيحا ومتماشيا مع الحق، فرحب بفكرة السيدة خديجة بأن تكون هي من تختار زوجها المفضّل؛ النبي الأكرم

 وهو ما حدث فعلا حينما تنازعت قريش على وضع الحجر الأسود في موضعه، وكما قال المسعودي في مروج الذهب: أن قريشا تنازعت فيما بينها على قصة وضع الحجر بعد ترميمات جرت على الكعبة، وأشتد النزاع والخصام بين القبائل، حتى كانت الحرب من الناس قاب قوسين أو أدنى، لولا ان يهرع العقلاء والمصلحون إلى أبي طالب يسألونه التدخل السريع في القضية تفاديا للحرب الطاحنة، ففكر مليا ثم رفع إليهم رأسه وقال: الرأي الصحيح والحل المجدي هو أن تحكموا في أمركم أول طالع عليكم من باب شيبة، وأخيرا صوبوا الرأي واستحسنوا الخطة واتجهوا يرقبون الطالع من باب شيبة، فإذا هم برسول الله، صلى الله عليه وآله، وقد طلع عليهم من الباب التي عناها ابو طالب، وكأن وجهه فلقة قمر طالع، أو هو البدر ليلة كماله وتمامه، فاجتمعوا عليه واجمعوا على تحكيمهم إياه قضيتهم المتأزمة، فلم يكن من النبي إلا أن فرش رداءه وتناول الحجر بيده الكريمة فوضعه في وسط الرداء، ثم انتخب من الجمع العمدة والزعماء المتناحرة أربعة أنفار أعطى لكل واحد منهم طرفا من الرداء ليحملوه إلى مكانه الأصلي، ولما وصلوا به تناوله، صلى الله عليه وآله، و وضعه في محله، فاستحسن الجميع هذا الحل المرضي، كما فرحوا بانتهاء الموضوع بسلام.

إنه رجل السلام والأمن ونصرة المظلوم، وهو ما نجده من خلال تبنيه حلف الفضول الذي هدفه نصرة المظلوم وجاء ذلك نتيجة ما يقوم به بعض أهل مكة من الاعتداء على حجاج بيت، او المسافرين اليها، فقد جاء رجل من قبيلة خثعم مع ابنته لحج بيت الله، فقام شاب من أهل مكة، و أخذ الفتاة بقوة، فصاح الرجل الخثعمي: من ينصرني؟ فأجابه بعضهم: عليك بحلف الفضول فانطلق الرجال إلى أبي طالب، والى حلف الفضول، فهبّ رجال مسلحون إلى بيت ذلك الشاب وهددوه، وأعادوا الفتاة إلى أبيها.

  • اليد الحانية التي صقلت شخصية النبي

و لم يكتف في رعايته وحمايته بل نجده قد اهتم بتوجيه النبي وتربيته من خلال اطلاعه على معالم المجتمعات وأحوالها و مختلفات سير الأمم والشعوب بعد أن عَني في تربيته الجسدية، ولما بلغ النبي، صلى الله عليه وآله، الثانية عشرة من العمر، سار به أبو طالب إلى الشام ليوقفه على أحوال الأمم المختلفة، والأقطار النائية المغايرة لإقليم قطره، تلك أصول التربية والتعليم، والنبي، صلى الله عليه وآله، وإن كان في غنىً عن هذا بما أتاه الله من فضله، غير أن أبا طالب أراد القيام بواجب التربية، فهو، عليه السلام، عَني بذلك عناية أن المتتبع لها بشكل خاص يجد انه يسعى لصنع شخصية مضمونة النتائج، وهو ما جعل أبو طالب، عليه السلام، يعرض على النبي، صلى الله عليه وآله، العمل مع السيدة خديجة بنت خويلد مستغلا بذلك موقعه الاجتماعي، ودوره الذي لا يخفى على معظم بطون قريش وسادتها، فعرض عليها فكرته وغايته، فلم يجد منها إلا الترحيب الحار والتقدير والإكبار، ثم صبت الأموال بين يديه وتركت الخيار له فيأخذ ما يشاء من غير حساب، كرامة للزعيم الهاشمي وتقديرا لمحمد العظيم، فتناول قدراً معيناً وشكرها على شعورها الطيب نحوه ونحو ابن أخيه، ثم خرج من عندها مودعا بمثل ما استقبلته به من الحفاوة والتكريم، بعد أن طلبت اليه ان يعلمها بساعة السفر لتجهز خادمها ميسرة ليكون بخدمة النبي مصطحبا إياه، ليتولى إدارة شؤون القافلة ذهابا وإيابا.

⭐ إنه رجل السلام والأمن ونصرة المظلوم، وهو ما نجده من خلال تبنيه حلف الفضول الذي هدفه نصرة المظلوم وجاء ذلك نتيجة ما يقوم به بعض أهل مكة من الاعتداء على حجاج بيت، او المسافرين اليها

ومن هذا نفهم أن السيدة خديجة بنت خويلد؛ وهي من تجار قريش، لها كل المعرفة و الإحاطة بشخصية أبي طالب، عليه السلام، بل كل الثقة بما يقدمه لا من عرض في تجارتها، وهو ما جعلها تلتفت وتتنبه لهذه الشخصية أي شخصية النبي، صلى الله عليه وآله، الذي تجد فيه تربية أبي طالب، عليه السلام، وهي بذلك تجده الحكيم الذي يمكن أن تلجأ اليه لتعبر عما بداخلها من إعجاب في شخصية النبي محمد، صلى الله عليه وآله، لأنه يعمل على تأسيس ونشر ثقافة الاستقامة، وأن امرأه مثل خديجة تملك هذه الأملاك، وهذه التجارة تختار شابا لأخلاقه، يعده أبو طالب درساً يمكن ان يؤسس عليه منهجاً ثابتاً في ما يجب أن يكون عليه الاختيار والزواج في المجتمع الذي تسوده المصالح والمطامع والتقارب الطبقي.

ومع وجود الأعراف والقواعد المجتمعية التي تنص على أن الرجل هو من يختار المرأة المرأة، نجد هذه القواعد لم تقف أمام فكر أبو طالب، عليه السلام، لما يراه مناسبا وصحيحا ومتماشيا مع الحق، فرحب بفكرة السيدة خديجة بعد أن اهتدت إلى حل تحطم به هذه العادة، دون أن يشعر أحد بأنها قد تخطت سور هذه التقاليد الموروثة، فدسّت للرسول نفيسة بنت مُنيَه، لتطارحه الحديث – أي النبي-وتلقي في سمعه رغبة خديجة إليه، لعلها تعود إليها بما يطمئن منها الضمير، ولم يكد الحديث من الحوار الذي دار بين الرسول، صلى الله عليه وآله، ونفيسة، يشارف النهاية، حتى خطت نفيسة لخديجة تلقي إليها بالرسالة الناجحة، وحتى اندفع الرسول لعمه أبي طالب يثلج منه الضمير بهذا النبأ السار، ثم يُعقد حفل الزواج فيقوم أمام قريش وسيد العرب يوم ذاك ويقول: “ومحمد من قد عرفتم قرابته، قد خطب خديجة بنت خويلد، وبذل لها من آجلة وعاجله كذا…..”.

فالتعامل الاجتماعي لأبي طالب، عليه السلام، قبل البعثة مع أبناء المجتمع من قرابته وغيرهم، هو تعامل جوهري وإنساني لم يخضع به إلى القواعد والى الأعراف التي تعارض القيم السامية والأهداف العليا للقيمة البشرية وهو ما يفسر طبيعة فكر وتوجه هذه الشخصية التي تحاول تعزيز وترسيخ كل ما يكفل الكرامة الإنسانية وحفظها.


المصادر:

1- العاملي، جعفر مرتضى، ظلامة أبي طالب، المركز الإسلامي للدراسات، بيروت لبنان، 1421هـ .
2- علي خان، محمد علي ال سيد علي، أبو طالب وبنوه، مطبعة الآداب في النجف الاشرف، ط1، 1969.
3- المهزمي، أبو هفان عبد أحمد، ديوان شيخ الاباطح أبي طالب، تحقيق محمد باقر المحمودي النهضة، ط1، قم المقدسة .
4- الخنيزي،عبد الله، أبو طالب مؤمن قريش، دار الغدير، قم 1442.
5- سعيد، عسيلي، ابو طالب كفيل الرسول، دار الزهراء للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، بيروت –لبنان، 1986.
6- شرف الدين، محمد علي، شيخ الابطح أو أبو طالب ، دار الارقم، ط1، صور-لبنان، 1987م.
7- مؤسسة أنصاريان، ابو طالب ناصر الرسول، ترجمة كمال السيد، قم –ايران
8- المصدر السابق، الخنزيزي،عبد الله، أبو طالب مؤمن قريش
9- التونجي، محمد، ديوان ابي طالب عم النبي، دار الكتاب العربي، ط1، بيروت- لنان، 1994.

عن المؤلف

م.م حسين رشك خضير/ كلية التربية الأساسية/ جامعة ميسان

اترك تعليقا