ثقافة رسالية

العقل هو الدين (18) دور العبادة في تنمية العقل*

قال الرسول الأعظم، صلى الله عليه وآله: “لكل شيء آلة وعدّة، وآلة المؤمن وعدته العقل ولكل شيء مطيّة ومطية المرء العقل ولكل شيء غاية وغاية العبادة العقل ولكل قوم راعٍ وراعي العابدين العقل”.

في الحديث يبين الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله، محوريّة العقل وأهميته في كل شيء؛ في العمل، والفكر، والتعليم، والعبادة وما أشبه، فالرسول ذكر تلك المفردات من باب الأمثلة، وإلا فإن العقل هو خلاصة ومحور الإنسان، ولا ريب أن كل شيء يتصل بالإنسان لابد أن يرتبط بالعقل.

“لكل شيء آلة وعدّة وآلة المؤمن وعدته العقل”، الإعداد يعطي الإنسان القوّة ويمكنه من الغلبة، والآلة هي الأداة هي التي يستخدمها المرء لبلوغ هدف ما، فعندما يكون هناك هدف فإنه بالتالي بحاجة الى وسيلة، فالوسيلة لبلوغ الأهداف المشروعة هو العقل، والإنسان ـ تارة ـ يُعدُّ نفسه للامتحان، او للقاء..، وكل ما يقوى به هو بالعقل، “ميدانكم الأول انفسكم إن قدرتم عليها كنتم على غيرها أقدر وإن عجزتم عنها كنتم عن غيرها اعجز”.

بقدر ما يكون هناك عقل تكون الطرق الى الغايات أقصر، وتكون الإمكانات أقل، والنتيجة التي يحصل عليها الإنسان تكون أفضل وأكمل

فالنفس تُغلب بالعقل؛ يقول أمير المؤمنين، عليه السلام: “إنما هي نفسي اروضها بالتقوى” وترويضها بالتقوى يكون بالعقل، فإذا أراد الإنسان إكمال شخصيته الإنسانية، فلن ذلك إلا عبر الوسيلة الأساسية وهو العقل، فبدونه هذه الوسيلة لن يبلغ الإنسان أي هدف، فبقدر ما يكون هناك عقل تكون الطرق الى الغايات أقصر، وتكون الإمكانات أقل، والنتيجة التي يحصل عليها الإنسان تكون أفضل وأكمل.

“ولكل شيء مطيّة ومطية المرء العقل”، الإنسان بحاجة الى دابة يمتطيها ويركبها، لذلك نرى البعض يجعل الدين مطية للوصول الى أهدافه، أما في هذه الرواية فإنها تجعل العقل مطية للوصول الى الأهداف؛ فنحن نحتاج ان ننتقل من الجهل الى العلم، ومن الضعف الى القوة، ومن البخل الى العطاء والكرم، ومن الكسل الى النشاط، ومن كل الصفات الذميمة الى الصفات الحميدة، لذلك نحتاج أن نكمّل أنفسنا؛ فكلنا لدينا قصور، فالبعض عنده صفات غير حميدة يريد التخلص منها، ويكون ذلك كله بالعقل، فبقدر ما نملك من عقل تكون انتقالتنا سهلة.

نقرأ في دعاء الصباح: “فبئس المطية التي امتطت نفسي من هواها”، فالهوى لا ينقل الإنسان من الجهل الى العلم، وإنما بالعكس؛ من الصلاح الى الفساد.

“ولكل شيء غاية وغاية العابدين العقل”، فنحن نصلي، ونصوم، ونحجُّ ونؤدي بقية الأمور العبادية بالعقل، وبالعبادة تكتمل عقولنا، فالإنسان حين يصوم ويكون شهر رمضان في حر الصيف القائض، ويأتيه العطش حينها يكبح جماح الشهوة، وبهذا يقمع الهوى، وحين يسيطر الفرد على عليهما ـ الهوى والشهوة ـ ينمو عقله، لأنهما حاجبان عن العقل، لذلك فالصوم يقوي الإرادة وبهذا تضعف الشهوة والهوى، وبالتالي يقوى العقل.

 وكمثال آخر للعبادة؛ الحج والعمرة، فحين يقوم الإنسان بأحدى هذه العبادات فإنه يُمنع من أمور كثيرة خلال فترة ادائهما، فهو يجمع قواه حتى لا يرتكب محرما من المحرمات وبالتالي يؤدي الدور بدقة في كل موقف من تلك المواقف، وهذا بدوره يقوي ارادة الإنسان وانضباطه، ويهبُ له الحركة والنشاط والحيويّة، وتكون النتيجة أن لديه القدرة على التغيير، فالحج عبارة عن رحلة تغييرية للعادات والتقاليد المتبعة، وينقل الإنسان الى عالم آخر، فالهوى يقول للإنسان: اخضع للواقع وكرّس نفسك معه، لكن الحج خلاف.

كذلك الصلاة؛ يقول الله ـ تعالى ـ: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}، فالإنسان الذي ينتهي عن الفحشاء والمنكر ينمو عقله، لانها هي التي تضعف العقل، يقول الشاعر:

سألت وكيع سوء حفظي

فدلني على ترك المعاصي

فالذنوب والمعاصي تضعف عقل الإنسان وهي من الفحشاء والمنكر، فعموم الناس تنمو عقولهم بالصوم، لكن المتقون تكون الصلاة الوسيلة الأفضل الى تنمية عقولهم، كذلك الدعاء والقرآن الكريم يعالج النفس لبقية الناس، لكن المتقون يعالجون أنفسهم بالقرآن الكريم، {وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ}، لذلك ترى بعض الناس يتأثرون بكلام الخطيب أكثر مما يتأثرون بالقرآن الكريم، لكن المتقون يجعلون من كتاب الله شفاءً لنفوسهم.

التقوى تعني تنمية العقل، يقول أمير المؤمنين، عليه السلام: “وأشعر قلبك التقوى تنل العلم”، فبقدر ما يكون عند الإنسان تقوى، يكون عنده علم، وبقدر العلم يكون العقل، فالعبادات هدفها تنمية العقل

جاء في تفسير الآية: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} أي ليعلمون، والعلم هو العقل، يقول الله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، والتقوى تعني تنمية العقل، يقول أمير المؤمنين، عليه السلام: “وأشعر قلبك التقوى تنل العلم”، فبقدر ما يكون عند الإنسان تقوى، يكون عنده علم، وبقدر العلم يكون العقل، فالعبادات هدفها تنمية العقل.

“ولكل قوم راعٍ وراعي العابدين العقل”، لا يوجد أي مجتمع بدون قائد، وإلا لتحول الى مجتمع تعمه الفوضى والحروب الداخلية، ولهذا لابد أن تكون هناك سلطة، لكن من هو قائد وراعي العابدين؟ العقل هو راعي العابدين وقائدهم، لأن العقل قادهم  ولهذا عبدوا الله ـ تعالى ـ، والمقصود بالعابدين الذي بلغوا حقّ العبادة وهم العلماء.

 تارة تُستخدم كلمة “العبّاد” في قبال كلمة “العلماء”، وتارة أخرى تُستخدم مع العلماء، وإلا فالعالم أفضل من ألف عابد، فالمقصود إذن من العبّاد هنا هم العلماء، فالله ـ تعالى ـ اختار أنبياءه عبّاداً قبل أن يكون أنبياء، حتى النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، كان عابداً قبل أن يكون نبيا، ونحن نقرأ في التشهد: “أشهد أن محمداً عبده ورسوله”، فهؤلاء هم العبّاد الحقيقيين، وليس من تكون لديه عبادة شكلية، وهذا النوع من العبادة ـ الشكلية ـ هو الذي لا يمتلك علم، وإلا فالعبادة تكون بالمعرفة الحقيقية.


  • إعداد هيأة التحرير

عن المؤلف

آية الله الشهيد المجاهد الشيخ نمر باقر النمر

اترك تعليقا