رأي

ألا توحدنا لقمة العيش؟!

دائماً يقال أن التحديات الخارجية تذيب الاختلافات الداخلية وتدفع للتماسك والتعاضد لمواجهة المخاطر الخارجية، كأن تكون تهديدات عسكرية، او محاصرة اقتصادية، او غزو ثقافي، والعراقيون معرفون “بالنخوّة” التي كانت في تاريخهم الحديث داينمو الثورات والمواقف المشرفة دفاعاً عن القيم والمبادئ، فهم يغلّبون المصير المشترك على التفاوت الطبقي، واختلاف الرأي، والتباين في المستوى العلمي، ومثال الملاحم البطولية والانتصار على تنظيم داعش في جبهات القتال، وفي الجبهات الخلفية، حيث الدعم اللوجستي، والطبابة، والنقل، والاعلام، وحتى المرأة ايضاً.

بالأمس كان عناصر داعش على ابواب بغداد، وعلى بعد كيلومترات من كربلاء المقدسة، واليوم الخطر الاقتصادي يداهم بيوتنا و ارزاقنا، فبعد السكوت على تحجيم دوام المدارس والجامعات بذريعة “كورونا” مع فسحة الحرية لكل المرافق السياحية والتجارية في البلاد، وتضييع شهرين كاملين من السنة الدراسة، ثم يأتي السكوت على تقليص ساعات التجهيز الوطني من الكهرباء الى اربع ساعات في اليوم الواحد.

وبشكل غريب وغير معهود في مثل هذه الايام من السنة، يبدو ان اختبار الصمت الجديد على لقمة العيش والمواد الاساسية والضرورية بذريعة ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الدينار العراقي، علماً أن الدولار كان مستقراً عند 1220دينار للدولار الواحد، و بقرار مفاجئ من الحكومة يتعرض لضربة عنيفة ليسقط الى 1450دينار للدولار الواحد، والانعكاس السريع الذي لا تجهله الحكومة ولا السياسيين في بغداد، لهذا القرار على المواد الغذائية، مثل الرز، والطحين، والسكر، والزيت، وايضاً على مواد البناء، مما يعقد مشكلة السكن اكثر من ذي قبل، وربما الأخطر من كل ذلك؛ تغوّل اسعار الدواء والعلاج في المستشفيات التي تعجّ بالمرضى، لاسيما الامراض الصعبة التي تحتاج الى الملايين، فاذا كان علاج مرض ما يحتاج الى مليون دينار ـ مثلاً- ربما سيكون الرقم عشرة ملايين في قادم الأيام.

صحيح؛ أن في انعكاسات ارتفاع سعر صرف الدولار على الاسواق العراقية شيء من المبالغة والتهويل، وأن الزيادة على الاسعار ليست بالشكل المخيف، وهو صحيح على الطبقة المتوسطة فضلاً عن الغنية، بينما هو مخيف حقاً على سكنة العشوائيات، ممن يسكنون تحت سقوف الصفيح، ويرتزقون من بيع الخضار والفاكهة وبعض السلع في الساحات الترابية بين الاحياء السكنية بشكل يبعث على الأسى والأسف.

 

الشريحة المثقفة والواعية في المجتمع العراقي امام مسؤولية تاريخية عظيمة، فالعراق يتجه نحو منعطفات خطيرة للغاية، ويكاد يكون في عنق زجاجة جديدة كما جرّب ذلك أمنياً في السنوات الاولى من الاطاحة بنظام صدام

 

الشريحة المثقفة والواعية في المجتمع العراقي امام مسؤولية تاريخية عظيمة، فالعراق يتجه نحو منعطفات خطيرة للغاية، ويكاد يكون في عنق زجاجة جديدة كما جرّب ذلك أمنياً في السنوات الاولى من الاطاحة بنظام صدام، عندما دفع العراقيون ثمناً باهضاً لم يتصوروه بآلاف الشهداء في مسالخ الجماعات التكفيرية والدموية.

واليوم يتجه وبسرعة نحو عنق زجاجة جديدة اقتصادياً مع تصاعد حدّة التجاذب السياسي اقليمياً ودولياً على العراق، وعندما يكتب الاصدقاء في مواقع التواصل الاجتماعي عن “الشعب العراقي الذي يدفع الثمن لوحده”، فحسب المفهوم السياسي، ووفق النظرة الاستراتيجية فان العراق هو من يدفع الثمن بثرواته الطبيعية، وقدراته الانسانية، وما على المواطن العراقي إلا الصبر والانتظار لحين انقشاع الازمة واتضاح من الرابح ومن الخاسر، او ربما يكون الجميع رابحين متخمين على مائدة العراق!

علينا ان نحوّل اختبار الصبر والتجلّد، الى اختبار التلاحم والتعاضد بوجه من يكيد للعراق والعراقيين، ولدينا اليوم من عوامل القوة ما يمكننا من فعل الكثير لمواجهة هذا التحدي الجديد، فالمزارعون في حقولهم الغنية، وعلماء الدين والخطباء يمارسون دورهم التبليغي والتثقيفي، والاكاديميون يواصلون بحوثهم العلمية، والكتاب والاعلاميون مستمرون بالبحث عن الحقائق والوقائع لرفد وسائل الاعلام، الى جانب شريحة  التجار واصحاب الرساميل ممن كانوا دائماً على جانب الشعب في غير محنة واجهها، وقد سمعت قبل قليل أن اصحاب حقول الشلب (الرز) في جنوب العراق وعدوا بالحفاظ على الاسعار المعقولة لهذا المحصول الحيوي وعدم رفعه بشكل يلحق الضرر بمائدة الفقير، بل واعلنوا عبر وسائل التواصل الاجتماعي أنهم مستعدون للتوصيل المجاني الى جميع انحاء العراق، وفي ذلك، وهي مبادرة خيّرة وطيبة لطمئنة المواطنين على سعر الرز العراقي (العنبر) الشهير، وأن المزارعين لن يخسروا زبائنهم.

ما نحتاجه اليوم الثقة العالية بالنفس، وبما لدينا من قدرات هائلة يغبطها علينا جميع شعوب العالم، فالعالم والمثقف والتاجر عندما يتحدث عن اليأس، والطريق المسدود، والمستحيل، فما بال المواطن المحروم من العلم، وغير المحظوظ بالمال، ولا يحمل الكثير من الثقافة والفكر كما لدى الخطيب والاديب والكاتب والاعلامي ممن يقرأون الواقع بنظرة أعمق وأكثر شمولية؟ اعتقد أن أجواء سلبية كهذه ستزيد في الازمة تعقيداً، اذا لم نقل بتكريسها في الواقع وجعلها أمراً طبيعياً، لدى الجميع دون استثناء، كما كان الحال في السنوات الماضية عندما يشيع البعض بأن “لافائدة من الكلام”، و”لا فائدة من الاعتراض والاحتجاج”، وهذا تحديداً ما يريده المتربصون خلف الستار، المتسببون بهذه الازمات والفتن.

عن المؤلف

محمد علي جواد تقي

اترك تعليقا