أسوة حسنة

مولد الإسلام من جديد باسم الجعفرية

  • مقدمة

في التاريخ منعطفات أساسية، ومنائر عالية تضيء دروبه وتهدي السائرين في غياهب الظلمات ودياجير المشكلات، ومن تلك المنعطفات الكبرى في التاريخ البشري هي هذه الأيام من تاريخ العرب في شبه الجزيرة العربية خاصة، والعالم القديم المعروف حينها عامة، وذلك بما جرى فيه من أحداث غيَّرت وجه التاريخ، بل صبغته بصبغتها المميزة، حيث ابتدأت بقصة أبرهة الحبشي وجيش الفيل حين أبادتهم السماء بطير أبابيل وسلم البيت وحاميه شيبة الحمد عبد المطلب، عليه السلام إبراهيم العرب الثاني.

 

وتلك الحادثة لم تكن عرَضِية بل أرادها الله سبحانه لتكون حديث الركبان في البوادي والقيعان، يتناقله العرب ويتعجب العربان من حديث عبد المطلب وقصته الإعجازية وما ذلك إلا ليكونوا على أهبة الاستعداد لسماعهم خبر ولادة حفيده اليتيم العظيم من ولده الشهيد الكريم ذبيح الله الثاني، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، الذي رافقت ولادته تلك الحوادث الكونية التي لم يعهدها البشر من قبل، فنار المجوس المعبودة من دون الله أطفئت ولم تطفأ من ألفي سنة، وأصنام الأرض وأوثانها كلها قُلبت على وجهها، وكل معبود من دون الله وجد مذلة ومهانة في تلك الليلة المباركة الميمونة، وكأن يد القدر قالت للبشر: “وُلد رسول التوحيد وبَطَلَ كلُّ معبود إلا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد”.

 

تلك كانت النقلة النوعية للتاريخ فحاول أشياخ الكفر والجحود من قريش وبالتعاون مع أرباب الشرك والأصنام، مع أحبار الضلالة والسفاهة من اليهود أن ينالوا من ذاك المولود الذي أرعبهم، وأرهب شياطين الأرض معهم، إلا أنه كان محفوظاً بحفظ الله ممنوعاً منهم ومن كل جبار عنيد، بما حباه الله من طاقات وقدرات ذاتية، وقوى شخصية، وما أحاط به من قوى كونية من أعظم ملائكة الرحمن يحفظونه منذ أن كان فطيماً، مع  ما كان يحوطه به عمه أبو طالب، عليه السلام، من الحماية والرعاية التي منعه فيها من قريش الظالمة المشركة، بما أعجب ملائكة السماء لا سيما حين نام ولده وفتاه علي، عليه السلام، في فراش النبي، صلى الله عليه وآله، ليلة الهجرة العظيمة وشرى نفسه برضا الله.

 

عاش الإمام الصادق، عليه السلام، في فترة مخضرمة من تاريخ الأمة الإسلامية ما بين الأموي الهالك، والعباسي السَّافك، فاغتنمها فرصةً بأن يُنمِّي تلك المدرسة العملاقة التي أنشأها والده العظيم باقر العلوم عليه السلام

 

  • المنعطف العظيم

فكانت تلك النقلة (الهجرة) بداية عهد جديد لتاريخ البشرية بكل معنى الكلمة حيث انتقل الرسول والرسالة من طور الاستضعاف في مكة المكرمة، إلى دور التنامي والقوة في مدينة يثرب والتي صارت المدينة المنورة، وطيبة بوصول النور والطيب إليها مع رسول الله، صلى الله عليه وآله، ودعائه لها، ولأهلها حيث سمَّاها (حرمي)، فقام فيها الإنسان العربي بمعجزة بكل ما للكلمة من قوة، حيث بنى دولة قوية صارت تُقارع إمبراطورية الروم من الشمال، والفرس من الشرق، وصار رجالها يجوبون ليس الصحراء العربية فقط بل كانوا رسل سلام ومحبة وحضارة إنسانية في كل الاتجاهات.

ولكن الانتكاسة كانت كبيرة برحيل الرسول القائد، صلى الله عليه وآله، وانقلاب الأصحاب على الأعقاب حين أخرجوا السلطان من بيت الله ورسوله وأهل بيته، إلى بيوتهم، ودورهم، وأفنيتهم وهم أهل شرك وكفر وقريبو عهد بجاهلية ـ كما كان يقول الحاكم القرشي الثاني ـ ولم يكونوا على ذلك المستوى من العلم بالشريعة الإسلامية، والقرآن الحكيم، بل أرادوا السلطة والحُكم فوصلوا إليها وحكموا ولكن بعد اثني عشرة سنة وصل الحكم إلى البيت الملعون والشجرة الملعونة في القرآن الأموية التي حرَّم الله عليهم أي نوع من السلطة والحكم في الأمة الإسلامية، وتلك انتكاسة ليس للسلطة الإسلامية بل للدِّين الإسلامي العظيم حيث عمل أبناء أمية وأحفاد هند الهنود على دفن الإسلام، (لا والله إلا دفناً دفنا)، وإعادة الأمة إلى الجاهلية من جديد، ولكن ألبسوها ثوباً رقيقاً سمُّوه الإسلام، حيثُ (لُبِسَ الإِسْلاَمُ لُبْسَ الْفَرْوِ مَقْلُوباً).

 

فحاول صبيان النار الأموية، ثم الأوزاغ المروانية أن يُغيِّروا ويُشوِّهوا كل شيء في هذا الدِّين الحنيف ونشأت أجيال، وطال بهم الزمان ألف شهر، وكانوا يسيرون من سيء إلى أسوء كما أخبر رسول الله، صلى الله عليه وآله: “مَا مِنْ عَامٍ إِلَّا وَيُحِدِثُ النَّاسُ بِدْعَةً وَيُمِيتُونَ سُنَّةً، حَتَّى تُمَاتُ السُّنَنُ وَتَحْيَا الْبِدَعُ“، وقال الحسن البصري سامري هذه الأمة: “كُلُّ عَامٍ تَرْذُلُونَ“، فخرج الناس من دين الله أفواجاً في حكومة بني أمية بعد أن دخلوا فيه في زمن النبي صلى الله عليه وآله.

 

  • مولد النور الصَّادق

يقول سماحة السيد المرجع المدرسي (دام عزه): “لقد كان الأمويون في الفترة الأخيرة من تسلطهم – حيث‏ اختلفت على الأمة الإسلامية التيارات الفكرية المتناقضة – يمارسون آخر محاولاتهم لتمويه الحقائق وإثبات المتناقضات، ويعالجون الأحداث السياسية على ضوء سياسة أسلافهم المنحرفين، والعجيب من أمرهم أنَّهم في تلك الحقبة كانوا يُبدِّلون أزياء الخلافة كما تتبدل السنين، فلا تكاد تقبل سنة جديدة على الناس إلَّا بخليفة جديد؛ لأن الأمة تلفظهم وتأبى الخضوع لسيادتهم الباطلة، في هذا العصر- بالذّات- قاسى الإمام الباقر، عليه السلام، من ظلم الأمويين الشيء الكثير، لأنه كان مأوى الحق وأهله ومركز المضطهدين، الذين عارضوا سياسة الأمويين كما يتبيَّن ذلك من سيرته المقدسة، أما الشيعة فقد ابْتُلوا بلاءً عظيماً من جرَّاء الظلم الأموي، كما بيَّن الإمام الباقر،عليه السلام، حين قال: “ثُمَّ جَاءَ الحَجَّاجُ فَقَتَلَهُمْ‏ كُلَّ قَتْلَةٍ، وَأَخَذَهُمْ بِكُلِّ ظِنَّةٍ وَتُهَمَةٍ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيُقَالُ لَهُ زِنْدِيقٌ أَوْ كَافِرٌ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يُقَالَ شِيعَةُ عَلِي عليه السلام“. (الإمام الصادق(ع)؛ قدوة وأسوة؛ السيد محمد تقي المدرسي: ص13).

 

لم تبقَ مدرسةٌ فكريةٌ إسلاميةٌ حافظت على ذاتيتها ووحدتها وأصالتها في جميع شؤون الحياة كما بقيت مدرسة الإمام الصادق، عليه السلام

 

في ذلك العصر الرهيب وتلك الأوضاع المأساوية التي وصلت بالأمة الإسلامية إلى حافة الانهيار كحالنا اليوم، جاء الفرج الإلهي، وولد ذاك النور العلوي، والسِّبط النبوي في يوم مولد جده المصطفى، صلى الله عليه وآله وكأنه يقول: “قد أتيتُ لأُجدد دين جدي وأُحيي سنته وسيرته في أمته”.

يقول السيد المرجع المدرسي: “كانت الأمة الإسلامية تحتفل بالذكرى الثمانين‏ من مولد الرسول الأعظم، صلى الله عليه وآله، في السابع عشر من شهر ربيع الأول، وكانت تسير في بيت الرسالة موجةٌ كريمةٌ من السرور والابتهاج، ترتقب مجداً يهبط عليها فيزيدها رفعةً وشموخاً، في تلك الليلة، وفي ذلك الجو الميمون؛ ولد الإمام الصادق، عليه السلام، شعلةَ نورٍ بازغةً سخت بها إرادة السماء لتُضي‏ء لأهل الأرض، وتُنير سبلها إلى الخير والسلام”. (الإمام الصادق(ع)؛ قدوة وأسوة؛ السيد محمد تقي المدرسي: ص11).

في ذلك الديجور ولد النور الصَّادق مع الفجر الصَّادق ليُعلن للعالم أن ولادة جديدة أذن بها الله لهذه الأمة المرحومة المباركة التي تسلَّط عليها أعداؤها، وتحكَّم فيها أشرارها، وغَلَبَ فيها أهلُ باطلها أهلَ حقِّها، فتسافلت، حتى صار خليفتها مروان الحمار، فأي سفالة وتدنِّي وصلته؟

 

  • الأمة تُولد مع إمامها

عاش الإمام الصادق، عليه السلام، في فترة مخضرمة من تاريخ الأمة الإسلامية ما بين الأموي الهالك، والعباسي السَّافك، فاغتنمها فرصةً بأن يُنمِّي تلك المدرسة العملاقة التي أنشأها والده العظيم باقر العلوم عليه السلام، فأضاف إليها من علومه، وفجَّر فيها من إبداعاته، ما حيَّر العقول والألباب، فاجتمع لديه من الطلاب الأفاضل في مختلف العلوم ما يزيد عن الأربعة آلاف، وضمَّت جامعته العملاقة في ذلك العصر أكثر من اثني عشر ألف كما يذهب بعض الأعلام، وانتشر هؤلاء في أرجاء الأمة وأصقاعها وبلدانها ومدنها يُعرِّفون الأمة بالدِّين الحق والمذهب الصحيح، لأن في عصره ظهرت المذاهب الفقهية والكلامية، فتلاميذه كانوا يُعرفون بالجعفرية، أو الشيعة الجعفرية، يقول سماحة السيد المرجع المدرسي عن تلك المدرسة: “لعلنا لن نجد في التاريخ الإنساني مدرسة فكرية استطاعت أن تُوجِّه الأجيال المتطاولة، وتفرض عليها مبادئها وأفكارها، ثم تبني أمة حضارية مُتوحِّدة لها كيانها وذاتيتها، مثلما صنعته مدرسة الإمام الصادق عليه السلام.

ويُهمُّنا معرفةَ ما كان لهذه المدرسة من تأثير في تثقيف الأمة الإسلامية التي عاصرتها والتي تلتها إلى اليوم، وإن الثقافة الإسلامية الأصيلة كانت جارية عنها فقط، حيث أثبتت البحوث أن غيرها من الثقافات المنتشرة بين المسلمين إنما انحدرت عن الأفكار المسيحية واليهودية بسبب الدَّاخلين منهم، أو ملونة بصبغة الفلاسفة اليونان والهنود الذين تُرجمت كتبهم إلى العربية، فبنى المسلمون عليها أفكارهم وكوَّنوا بها مبادئهم.

ولم تبقَ مدرسةٌ فكريةٌ إسلاميةٌ حافظت على ذاتيتها ووحدتها وأصالتها في جميع شؤون الحياة كما بقيت مدرسة الإمام الصادق، عليه السلام، ذلك لثقة التابعين بها وبأفكارها، مما دفعهم إلى الحفاوة بها وبملامحها الخاصة عبر قرون طويلة، حتى أنهم كانوا ينقلون عنها الروايات فماً بفم، وإذا كتبوا شيئاً لا ينشرونه إلَّا بعد الإجازة الخاصة ممَّنْ رووا الأفكار عنه.

وإذا عرفنا أن الثقافة الإسلامية – الشيعية منها أو السنّية – كانت ولا زالت تعتمد على الأئمة من معاصري الإمام الصادق، عليه السلام، كالأئمة الأربعة ممَّن توقَّف المسلمون على مذاهبهم فقط، وبالتالي عرفنا أن معظم هؤلاء الأئمة أخذوا من هذه المدرسة أفكارهم الدينية، حتى أن ابن أبي الحديد أثبت أن علم المذاهب الأربعة راجع إلى الإمام الصادق في الفقه”. (الإمام الصادق(ع)؛ قدوة وأسوة؛ السيد محمد تقي المدرسي: ص19 بتصرف).

فإذا عرفنا ذلك كله صحَّ لنا القول: بأن الأمة الإسلامية وُلدت من جديد لأنها تجدَّد فيها الفقه، والفكر، والتفسير وانتشرت الثقافة الإسلامية الأصيلة بفضل وجهد وبركة ونور الإمام الصادق عليه السلام ومدرسته بل جامعته العملاقة.

عن المؤلف

الحسين أحمد كريمو

اترك تعليقا