فکر و تنمیة

البحث عن التغيير.. أبو ذر مثالاً

يقول الله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انْفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.  (سورة البقرة/ 256).

ولد أبو ذر في أسرة تمتهن السلب و قطع الطريق لكنه فيما بعد أصبح صوت المحرومين و أمل المسلوبين، فالبيئة لا تحكم على مستقبل الإنسان. الآية السابقة تكلمت عن الكفر بالطاغوت و الكفر في اللغة معناه التغطية و الدفن و التجاهل و عدم الإعتراف. (كفر الشيء: ستره و غطاه. كما في معجم الغني)

و إن أول من ثار على الطغاة و علمنا الثورة هم الأنبياء و من اتصل بهم، فقد جاءت دعوة نبينا محمد ص ثورة على كل طاغٍ فاسد و ظالم و هو(ص)منذ ولادته كان قد أظهر المعجزات التي أذلت الجبابرة و هدمت قصورهم و معابدهم التي أسسوها لشهواتهم و حطم أصنام الإستغلال و التجارة و الذل.

 

  • مراحل التغيير

التغيير لا يأتي فجأة و عبثاً بل يمر بمراحل هي ربما أهم من التغيير نفسه و كان أبو ذر يمر بتلك المراحل بالتدريج:

ـ المرحلة الأولى: أبو ذر يفتش عن الحقيقة.

الحقيقة لا تأتي إليك بالصدفة و على طبق من ذهب، بل عليك أن تبحث عنها و تضحي من أجل معرفتها، فسلمان المحمدي ترك عزه و أمواله و صار عبداً من أجل الحقيقة، و كذلك أبو ذر الغفاري الذي كانت عشيرته من قطاع الطرق لكن أجواء الجهل والفقر والقسوة لم تؤثر عليه، بل راح باحثاً عن الحق و ضمن رحلته للمعرفة كانت قصة التجربة التي قام بها أبو ذر حيث ذهب إلى الصنم الذي يعبده قومه و اسمه (مَناة) و قدم له الحليب فلم يشرب فاختبأ عنه و راقبه فجاء ثعلبٌ و شرب حليب الصنم و بال على الصنم و ذهب.

و كانت هذه التجربة دليلاً و حجة لأبي ذر لمعرفة الحقيقة فمن صفات الرب أن يكون عزيزاً و قوياً لا ذليلاً

فأنشأ أبو ذر بيت الشعر المعروف

أربٌّ يبول الثُعلبان برأسه!

لقد ذل من بالت عليه الثعالب

و من أجل معرفة الحقيقة علينا اتباع عدة خطوات

1ـ  التجرد من أهواء النفس و شهوات الجسد و الثقافة السائدة، يقول الله تعالى: {قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ ۙ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ}. (سورة الأنعام/ آية 56).

2 ـ تحكيم العقل و التفكر و التدبر، يقول الله تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ۗ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ ۚ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ}. (سورة الأعراف/ 184).

3ـ السؤال و المناقشة و استماع الآراء المختلفة، يقول الله تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ}. (سورة الزمر/18).

4ـ التجرد من الظن و التأكد من الحق، يقول الله تعالى: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا ۚ إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ}. (سورة يونس/36).

5ـ الحق لا يقاس بالرجال(الكثرة)، يقول الله تعالى: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ ۚ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. (سورة المائدة/ 100).

 

التغيير لا يأتي فجأة و عبثاً بل يمر بمراحل هي ربما أهم من التغيير نفسه و كان أبو ذر يمر بعدد من المراحل

 

  • المرحلة الثانية: الإستعداد للتغيير (الذئب يهدي)

و بعد هذه التجربة أصبح أبو ذر مستعداً لتغيير نفسه و تقبل الحق و ترك الباطل و هذا مما يصعب على الإنسان، فأن تكون مختلفاً عن جماعتك و تتصرف بتصرفات يجهلونها يجعلك محط سخرية و انتقاد خصوصاً عندما تخرج الأفكار من ذهنك لتطبق على واقعك.

قال أبوعبدالله الصادق عليه السلام : “إن أبا ذر (رحمة الله عليه) كان يرعى غنما له إذ جاء ذئب عن يمين غنمه فهش أبوذر بعصاه عليه ، فجاء الذئب عن يسار غنمه فهش أبوذر بعصاه عليه ، ثم قال : والله ما رأيت ذئبا أخبث منك ولا شراً ، فقال الذئب : شرٌّ والله منّي أهل مكة بعث الله إليهم نبياّ فكذبوه وشتموه فوقع كلام الذئب في أُذن أبي ذر فقال لأخته: هلمّي مزودي وإدواتي و عصاي ثم خرج يركض حتى دخل مكة فإذا هو بحلقة مجتمعين ، فجلس إليهم فإذا هم يشتمون النبي (صلى الله عليه وآله) ويسبونه كما قال الذئب ، فقال أبوذر : هذا والله ما أخبرني به الذئب”. (بحار الأنوار ج22 ص421). فهو كان مستعداً و موطناً نفسه لتقبل الرسالة الإلهية و التفاعل معها و الإعتراف بها لأنه من البداية رفض الإعتراف بالأصنام و الأوهام و لم يعبد القوة و لا السلطة و لا المال و لا غيرها.

 

الحقيقة لا تأتي إليك بالصدفة و على طبق من ذهب، بل عليك أن تبحث عنها و تضحي من أجل معرفتها، فسلمان المحمدي ترك عزه و أمواله و صار عبداً من أجل الحقيقة، و كذلك أبو ذر الغفاري الذي كانت عشيرته من قطاع الطرق لكن أجواء الجهل والفقر والقسوة لم تؤثر عليه

 

  • المرحلة الثالثة: المواجهة المباشرة

في بداية المقال عرفنا معنى الكفر و هنا نعرف معنى الطاغوت و كيف نواجهه (الطاغوت: كل ما عبد من دون الله. معجم الرائد)

فهو يكون بصورة شخص أو صنم أو دولار أو سلاح  أو غيرها، و عندما نتمكن من تشخيص الطاغوت الموجود في مجتمعنا فإننا عبرنا مرحلة كبيرة و علينا بعدها أن نكفر بالطاغوت و نتبرأ منه و لا نعترف به،و هكذا كان الثائر أبو ذر قد كفر بالطاغوت المتمثل بالصنم و العرف الإجتماعي و قوة الكفار و ثروة قريش و غيرها، كفر بها كلها و تحداها في سبيل الله، في سبيل الحق و صدع يعلن كفره بالطاغوت الذي قاده الى الإيمان الحقيقي باللّه تعالى.

القصة:

فتزوّد أبو ذر، وقدم مكة، والتمس النبي محمد وهو لا يعرفه، وكره أن يسأل عنه حتى أدركه بعض الليل، فاضطجع فرآه علي عليه السلام فعرف أنه غريب، فلما رآه تبعه، واستضافه ثلاثة أيام، ثم سأله عن سبب قدومه، قال أبو ذر: “إن أعطيتني عهدًا وميثاقًا أن ترشدني، فعلت”. ففعل علي فأخبره، فقال: “إنه حقّ، وإنه رسول الله فإذا أصبحت فاتبعني، فإني إن رأيت شيئًا أخافه عليك قمت كأني أريق الماء، فإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي”، ففعل، وانطلق يلحق به حتى دخل على النبي محمد، وسمع من قوله، فأسلم لوقته، ثم أمره النبي قائلاً: “ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري”، فقال أبو ذر: “والذي نفسي بيده لأصرخن بها بين ظهرانيهم”، فخرج حتى أتى المسجد فنادى بأعلى صوته: “شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله”، فقام القوم إليه فضربوه حتى أضجعوه، وأتى العباس، فأكب عليه، وقال: «ويلكم، ألستم تعلمون أنه من غفار! وأنه من طريق تجارتكم إلى الشام؟»، فأنقذه منهم.

 

  • المرحلة الرابعة: الإصلاح مستمر بدون توقف

مادام ديننا هو دين الكفر بالطاغوت و مادام الطاغوت متلوّناً كالحرباء و يأتي كل يوم بصورة مختلفة فإن التحديات باقية و مستمرة و علينا أن نستمر بمواجهتها، و لذلك استمر أبو ذر على نفس المبدأ بمواجهة الطاغوت حتى بعد تغيّره و تبديل قناعه الذي تمثل بالجهل حيث ذهب إلى الشام بعد استشهاد الرسول الخاتم و أخذ يبلغ الإسلام و يرشد الناس و قاد الثورة على والي الشام غير الشرعي (معاوية) و كان أبو ذر يذهب قرب قصر معاوية و يقرأ الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}.(34/ التوبة).

و يقصد أن معاوية يأكل أموال الناس بالباطل و يظلمهم و هذا تحريض للناس للثورة على معاوية. و هكذا عاش أبو ذر ثائراً ليعلمنا أدب الثورة و أساليبها، فقد ثار على ثقافة مجتمعه و على قناعاته الشخصية و على الكفار بالله و على المتلبسين بالإسلام و الخونة و السارقين و كان مثالاً و قدوة لكل ثائر و مصلح.

هذا جانب واحد من حياة الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري و هناك جوانب أخرى تحتاج إلى البحث و الدراسة فهو الصديق الذي ما أظلت الخضراء و لا أقلّت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر و هو الفقيه الذي ظلمناه و لم نبحث في فقهه و هو المحارب الشجاع و هو الزاهد المجاهد و هو صاحب أعلى درجات الإيمان. هذه كلها فصول تنتظر من يكشف عنها.

عن المؤلف

كرار المدني/ طالب في كلية الإدارة والاقتصاد

اترك تعليقا