مناسبات

الهروب إلى الله.. المناجات الشعبانية – الحلقة السادسة

أوحى الله -تعالى- الى نبيه موسى قائلاً: يا موسى؛ الفقير من ليس له مثلي كفيل، والمريض من ليس له مثلي طبيب، والغريب من ليس له مثلي حبيب، يا موسى؛ ارضَ بكسرة من …

أوحى الله -تعالى- الى نبيه موسى قائلاً: “يا موسى؛ الفقير من ليس له مثلي كفيل، والمريض من ليس له مثلي طبيب، والغريب من ليس له مثلي حبيب، يا موسى؛ ارضَ بكسرة من شعير تسد بها جوعتك، وبخرقة تواري بها عورتك، و اصبر على المصائب، واذا رأيت الدنيا مقبلة عليك فقل: {إنا لله وانا اليه راجعون}، عقوبة عجلت في الدنيا، واذا رأيت الدنيا مدبرة عنك فقل مرحبا بشعار الصالحين”

يعيش الإنسان في داخله جانبين متضادين؛ الأول: ايجابي، والآخر: سلبي، أو بتعبير آخر؛ قطب الرجاء، وقطب الخوف، حتى أن وجود هذين القطبين يجعلان الإنسان في حالة توتر واضطراب دائم.

 

  • القطب السلبي

دعونا نوضح الأمر أكثر، إن لكل إنسان جوانب سلبية ونقصاً، وهي تمثل القطب السلبي فيه، منها ما هي في جسمه، ومنها ما هي في روحه، فالجسم –مثلاً- فان القوة البدنية، الشيء الذي يغتر الإنسان به دائماً، وهو الآخر مشوب بالنقص لأن أصله الفناء.

يقول مولانا الإمام أمير المؤمنين، عليه السلام: “مسكين ابن ادم، تنتنه العرقة وتؤذيه البقة، وتقتله الشرقة”، وكم هذه الحكمة مصيبة للب الحقيقة! فكم من شخص مات بسبب ماء شربه، فبدل ان يدخل المجرى الطبيعي له، دخل في مجرى الهواء فاختنق ومات! وكم هو مسكين هذا الإنسان وهو مغترّ بنفسه!

يكتب غورباتشوف –آخر زعيم ما كان يسمى بالاتحاد السوفيتي- في مذكراته، انه حين أنبئ بموت ستالين، ورأى جسده، أخذته الرجفة خوفاً، يقول: “كنت أقول مع  نفسي إن ستالين هذا الذي قتل اكثر من عشرين مليون إنسان في السجون فقط، والرجل الذي كان الناس يخافون من اسمه كيف تحول الى جثة هامدة”؟!

أو هل يبارز الانسان ربه بهذا الجسم الذي هو من عند الله –عزوجل-؟!

يُنقل أن المأمون العباسي هيأ جيشاً لحرب ما، فأصيب بمرض الموت وهو في طريق الحرب، فطلب ممن حوله ان يذهبوا به الى مرتفع، فحينما وصل الى المرتفع وشاهد جيشه الجرار الذي سيفارقه قريباً، رفع رأسه قائلاً: “يا من لا يزول مُلكَهُ ارحم من زال مُلكه”.

يمكننا تشبيه جسم الإنسان بزجاجة رقيقة جداً وبجانبها حجرة صغيرة، بأقل تيار للهواء، تصطدم الحجارة بالزجاجة وتكسرها.

هذا كله عن الجوانب المادية لهذا الإنسان، أما من الناحية المعنوية فالضعف أوضح، نقرأ في رائعة الإمام امير المؤمنين، عليه السلام، المعروفة بدعاء الصباح: “الهي قلبي محجوب، ونفسي معيوب، وعقلي مغلوب، وهوائي غالب، وطاعتي قليل”.

ومن هنا فإننا بحاجة إلى عطاء الله -تعالى- لحظة بلحظة، فما أن ينقطع الشعاع ينتهي العقل والعلم والمشيئة والحياة، ففي الروايات، أن الله اذا اراد شيئاً سلب عقول الناس، حتى يتم هذا الأمر، ومن ثم يرجع الناس الى رشدهم فيتساءلون كيف حدث هذا الامر؟

وكذلك، نجد الروايات التي تتحدث عن القدر تشير إلى هذا المعنى كما في الحديث الشريف: “اذا جاء القدر، عمي البصر”،  فمن جاء قدره لا يمكنه ان يبصر طريق الهروب منه، بل هو الذي يذهب الى اجله.

 

  • القطب الايجابي

وكما أن للإنسان جوانب سلبية تدعوه إلى الخلود إلى الأرض، كذلك الله -تعالى- مَنّ عليه بقطب إيجابي يدعوه إلى الارتفاع في درجات الكمال، ولعل أهم عامل في هذا القطب يتمثل في رحمة الله –تعالى؛ فرحمته كشعاع الشمس التي تشع في كل لحظة على الجميع، فلا يحتاج الانسان ـ وهو من يغلق نافذة قلبه ـ إلا الى فتح نوافذ القلب والإصغاء لأمر الرب -تعالى-.

فالامواج المتناثرة في الفضاء، لا يمكن للإنسان أن يستقبلها إلا مع وجود اجهزة تترجمها إلى واقع، هكذا الإنسان بالنسبة الى رحمة الله –عزوجل- الموجودة دائماً، عليه الاستفادة منها، وكما في الاحاديث الشريفة: “ان لله نفحات فتعرضوا لها”.

وبعد معرفة كل ذلك يأتي السؤال التالي مدوياً في كل أفق، إلى أين المفر؟ وفي خطبة لأمير المؤمنين، عليه السلام، يقول: “أَيُّهَا النَّاسُ كُلُّ امْرِي‌ءٍ لاَقٍ مَا يَفِرُّ مِنْهُ في‌ فِرارِهِ”، فهل يمكن أن يفر الإنسان من الموت والأجل؟

وقد تردد هذا السؤال في كل عصر ومصر، وقد جاء بعض المسلمين بهذه التساؤل الى رسول الله، صلى الله عليه وآله، حين نقلوا له مقالة أفلاطون التي قال فيها: “لو كان السماء قوساً والبلاء سهما، والرامي هو الله، فإلى أين المفر”؟

فجاء جواب الوحي بكل وضوح في سورة الذاريات حيث قال ربنا سبحانه و-تعالى-: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذيرٌ مُبينٌ * وَ لا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذيرٌ مُبينٌ}.

نعم؛ الحل بكل وضوح هو أن يفر الانسان الى الله عزوجل، ويختار الرحمة الالهية، والى ذلك يشير هذا المقطع الرائع من المناجاة: “فقد هربت اليك، ووقفت بين يديك”.

فالإنسان يفر من ضعفه وهوانه، و يفرّ من خلوده الى الأرض وانجذابه اليها، يفرّ من ذنوبه وموبقاته، من معاصيه وخطاياه، يفر من كل ذلك الى الله سبحانه، ولكي نعرف معنى الفرار يجب ان نتوقف عند مدلول هذه المفردة بشكل أعمق.

 

  • الهروب إلى الله

بصائر شتى يمكننا أن نستفيدها من هذه المفردة لعلنا نوجزها بشروط ثلاثة لهروب ناجح الى الله –تعالى-:

الشرط الأول: سرعة المبادرة

حين يواجه الإنسان خطراً محدقاً لابد له من سرعة إتخاذ القرار وسرعة تنفيذه، وإلا سيكون من المهلكين، وفي ميدان الحرب مع إبليس والشهوات، لابد ان يسرع الانسان في الهرب منه واتخاذ القرار الصارم في مواجهته، ومع أدنى تلكؤ سيكون مصيره مصيرَ من صرعهم إبليس أمثال عمر بن سعد، فحين طلب ظلام ليلة للتفكير في أمر الخروج ضد أبي عبد الله الحسين، عليه السلام، وكانت النتيجة أنه وقع في شَرَك ابليس، وصار حطباً لجهنم خالداً فيها.

الشرط الثاني: تحديد المقصد

إذا أراد المرء الهروب، فلا يمكنه ذلك إذا لم يحدد وجهة الهروب مسبقاً؛ فالتردد في الهروب من أهم أسباب فشله، ومن هنا فإن من لا يحدد الهروب إلى الله سلفاً، سيقع في الطريق الخاطئ حين الهروب.

اللشرط الثالث: البديل الأفضل

حين يفر الانسان من خطر، فإنه يتوجه نحو مأمن يؤويه من العدو، فإذا ما فر الإنسان من سبع ضاري، فانه يتوجه إلى كهف حصين أو شجرة مرتفعة أو دار محصنة، فهل يغني لو ألقى الإنسان بنفسه من أعلى الشاهق إلى الوادي هرباً من شيء؟ كذلك الهروب من النفس الأمارة بالسوء، لا يكون بالوقوع في وحل المعاصي، والشرك بالله -تعالى-.

 

  • مراحل الهروب الى الله

من الجدير هنا؛ ونحن نتأمل في قوله، عليه السلام،: “فقد هربت إليك”، أن نرسم خارطة طريق للهروب الى الله عزوجل، فالفرار الى الباري -تعالى- يتطلب مراحل تصاعدية:

المرحلة الاولى: هروب القلب

أول ساحة للمعركة مع النفس والشيطان تكون في قلب الإنسان، وهي معركة اتخاذ القرار، فمشكلة الكثير من الناس في اتخاذهم للقرار الصائب لعمل الخير، وترك الشر، فهنا تزل الأقدام عند الكثير من الناس، فالشيطان يحاول جاهداً منعهم من نية الخير فضلاً عن عمله.

ولعلنا نتحدث عن هذا الأمر لاحقاً بتفصيل أكثر، لأنها مرحلة حاسمة عند الكثيرين، وفي ذلك يقول الإمام زين العابدين عليه السلام: “وفّر بلطفك نيتي”.

أَوَ تعلم لماذا سُمي المحراب محراباً؟ لأنّك حين تقف هناك فإنّك تحارب نفسك الأمارة بالسوء، وتحارب الشيطان الرجيم.

جاء مستعطياً إلى امير المؤمنين، عليه السلام، فأخرج الإمام المال و أعطاه، ثم قال: “خذها وانا علي”، فأخذ الرجل المال وذهب مسرعاً، فتعجب الاصحاب من قول الامام هذه الكلمة في هذا الموقع، وقد اعتادوا على سماعها منه، عليه السلام، وهو في سوح الجهاد، وميادين القتال عندما يريد أن يقضي على عدو من أعداء الله -تعالى-، فاستفسروا عن السبب، فأجابهم الامام، عليه السلام، بأن الشياطين كانوا قد أخذوا بيده ليمنعوه من التصدق، فقال هذه الكلمة لطردهم.

وهكذا فإن اتتخاذ القرار في الهروب هي الخطوة الأولى والمهمة الصعبة في مسيرة الهروب الى الله -تعالى-.

المرحلة الثانية: التحرك هرباً

فليس الجلوس في الدار هروباً، ولا الوقوف على التل كذلك، فكل هروب تصاحبه الحركة، ومن هنا كان ينبغي على الانسان التحرك لذلك، وذلك من خلال الذهاب الى بيت الله الحرام حجاً، او الهروب الى أماكن آمنه كالمساجد والمراقد الشريفة، ففي الحديث عن الامام الباقر، عليه السلام، في قوله -تعالى-: [فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ‏ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ]‏، قال: “حُجُّوا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ”.

ولعل في قوله، عليه السلام،: “ووقفت بين يديك” إشارة الى ذلك، أيضاً.

المرحلة الثالثة: الهروب الى الدعاة

الهروب الى الله من خلال الهروب الى الدعاة اليه، كالأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، وأفضلهم خاتمهم، صلى الله عليه وآله، والائمة الاطهار عليهم السلام، والعلماء الربانيون السائرون على طريق الهدى والايمان.

استعاذة مروية في احاديثنا تقرأ عند وساوس ابليس، وكان العلماء يحافظون على هذه الاستعاذة قبل صلواتهم: “أَعُوذُ بِاللَّهِ الْقَوِيِ‏ مِنَ الشَّيْطَانِ الْغَوِيِّ وَ أَعُوذُ بِمُحَمَّدٍ الرَّضِيِّ مِنْ شَرِّ مَا قَدَّرَ وَ قَضَى وَ أَعُوذُ بِإِلَهِ النَّاسِ مِنْ شَرِّ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِين‏” .

وهذا هو الآخر نوع من الفرار إلى الله عزوجل.

 

  • الطريق الخاطئ

مشكلة البشر ـ في طريق الهروب إلى الله عزوجل ـ هي في أنه يُخطئ الطريق اليه، فبدل الهروب الى الله عزوجل، يتخذ لله شركاء، كالاصنام، بدءاً باحترامهم وتقديرهم وانتهاءً بعبادتهم وتقديسهم.

والسبب الاساس في الشرك، هو رغبة الانسان في التخلي عن مسؤولية افعاله، ومن خلال جعل الشركاء لله –عزوجل- كجعل النصارى المسيح ابناً لله، يحاول القاء المسؤولية على عاتق الشريك، بل يصل الامر بالبعض ان يعبدوا سبب المشاكل والآفات، وهو ابليس، محاولة للتخلص من وساوسه.

و القرآن الكريم يحذر من كل ذلك قائلاً: {وَ لا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذيرٌ مُبينٌ}، فالطريق الوحيد هو الهروب الى الله –عزوجل- وحده، فمنه نهرب ولكن اليه، وكما نقرأ في الدعاء: “يامن لا منجى ولا ملجأ منه إلا إليه”.

 

  • ووقفت بين يديك

إنه حقاً لموقع عظيم أن يقف الإنسان بين يدي الرب -سبحانه وتعالى-، يصف الرب ذلك في سورة الأنعام فيقول: {وَ لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى‏ كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ تَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَ ما نَرى‏ مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَ ضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ}.

حقاً؛ إن هذه الآية تدفع بمن يقرأها بتمعّن لأن يخشع قلبه من هذا الموقف، فهو موقف عظيم حيث يتصور الإنسان نفسه وحيداً فريداً عرياناً ذليلاً حاملاً ثقله على ظهره، ينظر مرة عن يمينه وآخرى عن شماله إذ الخلائق في شأن غير شأنه، فهل له غير أن يطأطئ رأسه؟

فهلا وقفنا بين يدي الله -تعالى- في هذه الدنيا قبل أن نقف موقف الذل هنالك؟ فعلينا أن ننتبه من رقدتنا، وأن نفيق من سكرتنا، و أن نعمل ونحن في مهل قبل حلول الأجل.

عن المؤلف

السيد مرتضى المدرّسي

اترك تعليقا