ثقافة رسالية

شهر رمضان وسيكولوجيا الإرادة

كل منا لا بد وأن تناول أطراف الحديث يوماً مع شخص غارق في المحرمات أو العادات السيئة والأخطاء، وعندما نسأله عن سبب ذلك …

كل منا لا بد وأن تناول أطراف الحديث يوماً مع شخص غارق في المحرمات أو العادات السيئة والأخطاء، وعندما نسأله عن سبب ذلك يجيبنا بأن شيطانه قوي! والحقيقة ليس كذلك، بل ان إرادته ضعيفة. كما أن كل واحد فينا عنده أمنية في التغيير دائماً نحو الأفضل على جميع المستويات، ومنها التغييرات في سلوكه، وتبقى أكثرها مجرد أمنيات والسبب هو أن التغيير لا يتحقق إلا بتقوية الإرادة.
والإرادة هي إحدى الاستعدادات التي يجب تنميتها في الإنسان، والتي نحتاج إليها مثلما يحتاج المريض الدواء، والجائع إلى طعام، فلو ضعفت، أصبح صاحبها مطية لنفسه الأمارة بالسوء ولوساوس الشيطان ولآراء من حوله وسلوكهم غير المحبوب، ويسهل قيادته إلى أي طريق، ويصبح مرتعاً للشيطان ويستمر على الخطأ حتى ولو ميزه عقله ونبهه ضميره! أما إذا قويت، سوف يكون الشخص أكثر ورعاً من غيره، وأكثر قدرة في الإقلاع عن العادات السيئة ويكون كالبيت المحكم لا يستطيع السارق دخوله بسهولة.
وتقوى هذه الإرادة وتضعف حسب الأشخاص، ولقوتها مجموعة من الوسائل وأفضلها هو الامتناع عن المحرمات في شهر رمضان، من مفطرات الصوم، وايضاً المحرمات التي يمكن ان يندفع اليها البعض من خلال النظر الحرام، وإطلاق اللسان بالاغتياب والاتهام والتسقيط وغيرها، فمن تدرَّب على أن يمتنع – باختياره – عن شهواته وملذاته، ويصرُّ على الامتناع عنها فلا بد أن تصغر أمامه الأهواء والعادات، ويشعر بالنصر عليها، وتقوى إرادته في باقي الأيام، لأنه ينمي صفة الصبر التي تتجلى واضحاً لفترة شهر كامل في شهر رمضان.
وبهذا فإن شهر رمضان هو بروتين الإرادة المقوي لها لتساعد الفرد في باقي الشهور على التغيير نحو الأفضل، لا أن يبقى التغيير مجرد أمنية عالقة في أذهاننا.
ولا يقتصر الصوم في شهر رمضان والصبر فيه، على تقوية إرادتنا في الابتعاد عن المحرمات، بل الإقلاع عن العادات السيئة، ولنأخذ أنموذجاً للعادات السيئة هو ظاهرة الإدمان أو الإفراط بالوقت مع مواقع التواصل الاجتماعي وما يسمى بـ»سوشل ميديا»، أو الاعلام الجماهيري.

الطقوس الرمضانية والصيام الإلكتروني

فمن فوائد شهر رمضان؛ التعويد على عملية الانضباط وكسر الروتين الذي اعتدنا عليه طيلة أحد عشر شهراً، وهذا الأمر يفيدنا في تقنين استخدامنا بشكل نظامي لوسائل التواصل الاجتماعي بما تدعو إليه الكثير من الدراسات بما يسمى بالصيام الإلكتروني والذي هو عبارة عن ترك الإنترنت لفترة أو تقنين الاستخدام لكسر الروتين الذي أصبح يلاحق كثيرين حتى أصبحت شاشة الهاتف المحمول أول ما يراه الشخص عندما يستيقظ من النوم، وآخر ما يراه قبل أن يخلد إلى النوم.
فقد فضلت بعض الدراسات أن تكون هناك فترة زمنية يصوم الشخص فيها صياماً إلكترونياً؛ بمعنى أن يبتعد عن وسائل التواصل الاجتماعي كل فترة لكي لا يكون الجزء الأساس في حياته، وحتى لا يصل إلى مرحلة الإدمان والعيش ضمن واقع افتراضي غير الواقعي والذي يصل للبعض إلى حد الإدمان فلا يستطيع أن ينقطع عن الإنترنت ليوم أو حتى ليلة واحدة، وربما لساعات عند بعض من الأشخاص! وهذا الأمر بحسب الدراسات ينبغي أن يكون ضمن برامج خاصة ينظمها الشخص لنفسه، وخاصة من يرون أنفسهم يهدرون جل وقت فراغهم تحت عناوين لا فائدة منها في عالم الإنترنت، وكل ذلك في محاولة لبقاء قوة الإرادة عند الشخص معتدلة بحيث لا يمكن أن يسلب عالم التواصل الاجتماعي أو السوشل ميديا إرادة الشخص ويجعل وقته مبذولاً في اللا مفيد.
وإذا ما طبقنا هذه الدراسة على الابتعاد عن عالم الإنترنت أو التقليل من استخدامه طيلة أشهر السنة، يمكن استثمار شهر رمضان لهذا الأمر، وبهذا يكون الاستخدام الإلكتروني تحت إرادتنا على المدار السنوي، ويجعل لنا إرادة بالتصرف به، لا أن نكون منقادين له في ضياع الوقت، فنبتعد في هذا الشهر الفضيل عنه أو نستخدمه باعتدال بمزاولة طقوس شهر رمضان المباركة والتوجه الى الصلاة المستحبة وقراءة الأدعية وتلاوة القرآن الكريم، والاستماع للمحاضرات التوعوية.
وهذا لا يتحقق بمعناه الحقيقي إلا عندما يكون وقت استخدام السوشل ميديا مقيداً لبعض الوقت.
كما أن لشهر رمضان طقوساً اجتماعية خاصة تتمثل بزيارة بعضنا البعض من الأقارب والأصدقاء وتبادل الاحاديث المفيدة، والاجتماع بين الأهل والجلوس على مائدة إفطار واحدة، وهذا بحد ذاته يجعلنا نبتعد عن وسائل التواصل للتماس مع العالم الحقيقي وقد يسأل سائل بأنه يمكن من خلال عالم الإنترنت أن يتواصل مع الآخرين، وهذا الأمر وإن كان صحيحاً، ولكن لا يعطي التأثير الاجتماعي للفرد فيما إذا كان بينهم جسداً، كما أن المشكلة تكمن في الإفراط بالاستخدام والمراد السيطرة عليه بإرادتنا.
لذا ينبغي علينا التقنين جداً في هذا الشهر، ولا نطلق العنان لأنفسنا بالمكوث على الأجهزة المحمولة، و وضع خطة زمنية لاستخدام تلك البرامج، ولا نقول تركها بالكامل، ولكن النظام جميل في كل شيء، فعلينا اغتنام فرصة شهر رمضان بعمل طقوسه العبادية والاجتماعية والتي تكون سبباً في تقوية إرادتنا في باقي الشهور أولاً؛ وحتى نتخلص من ظاهرة الإدمان والانطواء والعزلة بالعالم الوهمي في باقي الشهور، ثانياً.
وإذا ما استخدمنا مواقع التواصل الاجتماعي وكان الهاتف الجوال ملازماً ليدنا، فينبغي أن يكون في الأمور الإيجابية، ونحرص على عدم التقاطع مع ما يغضب الله – تعالى- فيفسد علينا روحانيَّة الشهر الكريم؛ بل في الأمور الدينيَّة والصحيَّة والعلمية، وبذلك نجمع بين الدين والعلم والحياة السعيدة، ونبتعد عن الاستخدامات السلبية فهناك أمر لابد من الالتفات إليه وهو أن بعض المستخدمين لوسائل التواصل الاجتماعي، يحاول أن يعبر عن سلوكه ومشاعره في أي حادثة له عن طريق هذا العالم الافتراضي، فتراه ينشر صوراً لموائد الإفطار المتنوعة بألوان الأطعمة والأشربة مما يثير مشاعر الحرمان لدى الشريحة التي بالكاد توفر مائدة بسيطة لافطار او إسحار شهر رمضان، وهو ما يتضارب مع أحد أهداف هذا الشهر الفضيل والمتمثل بالتكافل واستذكار الفقراء في محنتهم ومساعدتهم في توفير ما يحتاجونه.
ومن هنا نعلم بأن الصوم يمنح الانسان فرصة ذهبية للتغيير الإيجابي في المستويات كافة، بالتدريب على قوة الإرادة و التخلص من نقاط الضعف والسمات غير المرغوبة في الشخصية، وإن مزاولة الطقوس الرمضانية لهو خير معين لنا على تقنين استخدامنا لوسائل التواصل الاجتماعي المفرطة التي تبعدنا عن عالمنا الحقيقي، وتجعلنا أسرى له بإهدار الوقت الثمين وأن نستخدمه بما هو خير ومفيد لنا وللجميع.

عن المؤلف

هيأة التحرير

اترك تعليقا