ثقافة رسالية

ثقافة المسؤولية وأدوات التغيير نحو الأفضل

لا يكفي أن يكون للإنسان منهج وفكر في هذه الحياة وحسب؛ بل الأهم أن يكون ذلك الفكر والمنهج دافعاً لحركته وإنارة لطريقه بالرؤى والمفاهيم التي تطلقه في آفاق ميادين الحياة الرحبة، أما إذا كانت الأفكار شائخة ومتبلدة وعاجزة عن التعاطي والانسجام مع معطيات العصر …

لا يكفي أن يكون للإنسان منهج وفكر في هذه الحياة وحسب؛ بل الأهم أن يكون ذلك الفكر والمنهج دافعاً لحركته وإنارة لطريقه بالرؤى والمفاهيم التي تطلقه في آفاق ميادين الحياة الرحبة، أما إذا كانت الأفكار شائخة ومتبلدة وعاجزة عن التعاطي والانسجام مع معطيات العصر الراهن وحاجاته الضرورية، فإنها تكاد تكون غير مجزية ومفيدة، إن لم نقل تسبب التخلف والخسران.

فالأفكار والمناهج التي تولد الانهزامية، وتكرس الجمود في الواقع، وتبعث على الدعة والكسل، لا تعين المجتمع على البناء والتغيير والإصلاح، وإنما تعزز فيه الثقافات التبريرية التي تزيد من فشله وتقهقره، وتلقي به في ردهات الضياع والغياب عن الواقع والحياة.

ونحن في عالم اليوم الذي يعيش نهضة فكرية زاخرة بالحداثة والمعرفة، وبلغت فيه أدوات العلم إلى مراحل متطورة ومتقدمة، ينبغي أن نجدد صياغة مناهجنا وأفكارنا لتواكب ضرورات العصر ومقتضيات مراحله الراهنة، فنبني ثقافة مسؤولة قادرة على تعبئة الجماهير الغفيرة بالرؤى والقيم الخلاقة التي تبعث على النشاط والفاعلية، وتستثمر مخزونها الثقافي والفكري.

ولقد أضحت أفكار وثقافة أجيالنا الراهنة تُعايش مزيجاً تناقضياً يستدعي ولادة شخصية ازدواجية، وتلونات فكرية وثقافية غير منسجمة مع منطلقات ومرتكزات منظومة المفاهيم الأصيلة، فتارة تتسم بلبس عباءة الدين والشريعة السمحة، وأخرى تتماشى وتنساق للسلوكيات الهدامة والمنحرفة، التي لا تمت لمقاصد الدين وقيمه المُثلى بعلاقة وصلة، فضلاً عما تقرنه بنظمها وقوانينها لتؤسس وفق معطياته وآفاقه، قانوناً ومنهاجاً لا يجاري الواقع والحياة.

ثم من الجدير أن نذكّر أن الذي يهدد المنهج الثقافي الأصيل، ليس ما يواجهه من أخطار خارجية تبتغي سلب الهوية والخصوصية وحسب، وإنما نتيجة ما تعايشه المجتمعات من ابتعاد حقيقي، واتباعها لثقافات وأفكار تكرس واقع الفشل والكسل، بيد أن الذي يطلق المجتمعات ويجدد عطاءاتها وتضحياتها ويفتح لها آفاقاً واسعة على بوابة الحياة ويدفعها في مجالات التقدم والرقي، هو الفكر المسؤول.

ولا غرو أن الاعتزاز بالثقافة والفكر واللغة لا يغير أو يصلح من مصائر المجتمعات إلا بما تحمل من نموذج فاعل يستنهض قدراتها وإمكانياتها.

 ما هو الفكر المسؤول؟

انه ذلك الفكر الرسالي الذي يرتكز إلى محاور تدفع حركة المجتمعات إلى النهضة والتطلّع، وتشحذ مسيرتها بزخم هائل من الرؤى والأفكار الهادفة التي تلبي احتياجاتها ومتطلباتها، لذا نشير الى ملامح هذا الفكر:

1ـ إطلاق مسيرة الوعي

إن الذي يسلب المجتمعات مكانتها ويفقدها قدراتها وإمكانياتها هو ما تفتقر إليه من وسائل الوعي، فكلما كانت عديمة الفهم والفقه لمجريات الأحداث والتبصر بمقتضيات الواقع والحياة، كانت أقرب للسقوط في شرك الاستلاب والضياع، وهو الأمر الذي أودى بالأمة إلى ما هي عليه من تخلف وانحطاط وتفاقم الأزمات والانتكاسات في نطاق دوائرها ونظمها، ولو أنها جهدت بتعبئة الجماهير بوسائل الوعي لاستطاعت أن تتقدم في جميع مجالاتها.

وليس من ريب ان نتاج المجتمعات ومساعيها الحثيثة ستكون عرضة للأخطار والضياع ما لم تتسلح بأدوات الوعي، ففي الحديث عن الإمام الصادق، عليه السلام، قال: «العامل على غير بصيرة كالسائر على طريق بلا هدى، فلا تزيده سرعة السير إلا بعدا»، بل إنما تتضاءل الخسائر وتتصاعد معدلات الكسب عن طريق امتلاك هذه الوسائل.

2ـ مكافحة الفكر اللامسؤول

بقدر ما تترك الفيروسات الفتاكة من أثر كبير على جسم المريض حين تهجم عليه فتسلبه سلامته وتشل حركته، فإن الأفكار الخاملة والسقيمة تحجب آفاق الحقائق والرؤى عن بصيرة الإنسان، وتعيقه عن التقدم وإطلاق مساعيه في رحاب الحياة، وإذا كنا نكثر من وسائل الوقاية والاحتراز كي لا نصاب بعدوى الفيروسات الخطرة، فإن ما ينبغي لنا أن نحذره تلك الأفكار ووسائلها، لنحد من انتشارها في مجتمعاتنا، لأنها أخطر من تلك الأمراض التي تصيب الجسد.

ولقد أضحت الأفكار والثقافات في ظل تقدم وسائل الاتصال والتكنولوجيا تتجاوز العوائق والسدود وتخترق الآفاق، فهي تنتشر بشكل سريع وتتسلل إلى أدمغة أجيالنا، ولم تقتصر في عصرنا الراهن على صعيد، بل إن وسائلها تكاد تغرق مساحات المجتمع بكثرتها وتنوعها، فبين مقروء ومسموع ومرئي، ويتزايد انتشار أفكارها عبر شبكاتها العنكبوتية، الأمر الذي يستوجب تضاعف الجهود لفضح تلك الوسائل وكشف مخططاتها، ليس لأنها تحمل لونا حضارياً وتقدمياً، إنما لما تقوم به من تعزيز وتكريس واقع التقاعس والانزواء عن مجريات الأحداث وقضايا العصر، وإشغال محيط الحياة بالرذيلة والميوعة والتشجيع عليها، بحيث لا يستشعر الإنسان معها مدى التردي الذي يحيط بواقعه ومصيره، ولا ينطلق عبر منهجه المسؤول في إصلاحها وتغييرها.

ولمن يلاحظ آثار تقنية الاتصال في الوقت الحاضر على أخلاق وسلوك الناس، ولاسيما شريحة الشباب، يجد أعراض الانطوائية وإعطاء القيمة الأكبر للذات بسبب العوالم الافتراضية التي ترسمها وسائل التواصل الاجتماعي ومواقع النت، وهذا من شأنه خلق الفكر اللامسؤول الذي يدفع بالإنسان في ردهات الضياع وتغييبه عن واقعه ومشاكله لتبقى دون حل.

3ـ تضافر الجهود المشتركة

إذا كانت الحرية والكرامة أسمى وأغلى ما يكافح من أجله الإنسان، ومن أولويات مساعيه وجهوده في هذه الحياة، فإنها لا تتحقق عن طريق الأحلام الجميلة والتمنيات الخائرة، أو التذرع بالقوى الغيبية الخارقة، إنما هي بحاجة إلى تضحيات وجهود جبارة، واقتحام أتون الصعاب.

يقول الشاعر أبو القاسم الشابّي في قصيدته الشهيرة:

ومن يتهيّب صعود الجبال

يعش أبد الدهر بين الحفر

إن جيل النشء الأول في فجر الإسلام لم ينل تلك المكتسبات والإنجازات العظيمة إلا بمشاركته الفاعلة وتضحياته الجزيلة بكل ما يملك من قدرات وإمكانيات، فإن مناهج الإصلاح والتغيير التي نتطلع إلى تحقيقها لا يمكن أن نرسي قواعدها إلا بتضافر الجهود وشحذ الهمم المشتركة لخلق المناخ الملائم لتحقيق النجاح المطلوب.

 الجميع مسؤولون

وليست هذه المسؤولية ملقاة على عاتق المفكرين والمنظرين وحسب، إنما هي مسؤولية سائر أطياف المجتمع بكل مستوياته وتوجهاته، إذ ينبغي أن يكون هماً مشتركاً تندفع كافة قوى المجتمع لإطلاق حركته، ولنتذكر دائماً الحديث النبوي الشهير:

«كلكم راع وكل راع مسؤول عن رعيته»، فالأمير الذي على الناس راعٍ، وهو مسؤول عن رعيته، كما الرجل في بيته، هو راعٍ على أهل بيته و مسؤول عنهم، وايضاً المرأة راعية لأبنائها و زوجها، فهي مسؤولة عنهم».

إن تحمل المسؤولية ليس بالامر الهين في التطبيق العملي، نظراً للتراكمات والرواسب الفكرية والثقافية وتنوع السلائق والاساليب واختلاف الظروف النفسية والموضوعية، الامر الذي يتطلب بعضاً من الاجراءات الاصلاحية والتجديدية في طريقة التفكير وإعادة نظر شجاعة الى منظومة السلوك والعادات المتبعة لدينا، فهي التي تعيقنا احياناً عن تحمل مسؤولية انفسنا، فضلاً عن تحمل مسؤولية الآخرين.

والمجتمعات تبقى بحاجة للمصلحين مهما بلغت سن الرشد وكان لها من الثراء الفكري والإمكانيات المعرفية، بل هي بحاجة ماسة إلى المصلحين الذين يراقبون حركتها ويرفدون مسيرتها بالرؤى التي تدفع بنهضتها وفاعليتها إلى التقدم والرقي.

وإذا عدنا بأنظارنا قليلاً لصفحات التاريخ سيتجلى لنا ضرورة البعد الإصلاحي وأهميته في حفظ مسيرة الأمة وصيانة منطلقاتها وأهدافها، حيث مارس رجال الإصلاح عبر مسيرتهم الطويلة والشاقة دور الإصلاح والتغيير في الواقع، وكادت وسائل الأعداء ومخططاتهم ان تتمكن من السيطرة التامة على إمكانيات المجتمعات وثرواتهم، غير أن تصاعد المد الإصلاحي كان يعيد حاضرها إلى قيمها ومبادئها، وكلما ازدادت الضغوط العدائية على المجتمعات الإسلامية، انبعث المصلحون الرساليون ليجددوا الآليات والأدوات التي تنهض بالواقع من التبعية والانقياد للأجنبي، وتعبئتها بالفكر والثقافة الأصيلة التي تنتمي إليها.

ورغم التراجع الموجود بين صفوف الجماهير وغياب الواقع عن روافده وموروثاته.

كانت وظيفة المصلحين تبادر إلى تصحيح المفاهيم والرؤى والكشف عن الرؤى والمضامين المساعدة على بقاء هذا الواقع وتجذّره في عمق الثقافة والفكر.

وإنما نجح أولئك في مهمتهم الرسالية بانقاذ الامة من الانحراف والتخلف، ومساعدته على مواجهة التحديات الخارجية، بفضل شجاعتهم في تحمل المسؤولية، وتفضيل المصلحة العامة على مصالحهم الخاصة.

عن المؤلف

هيأة التحرير

اترك تعليقا