مناسبات

عاشوراء فرصة للجميع لمراجعة الذات

قبل ان تنضج الحركات الثورية او التحررية في العالم، تسبقها حركات تغييرية في نفوس افراد الأمة الثائرة والطامحة لتغيير واقعها السيئ، فإن لم تنجح في هذه الحركة وتطمئن على …

قبل ان تنضج الحركات الثورية او التحررية في العالم، تسبقها حركات تغييرية في نفوس افراد الأمة الثائرة والطامحة لتغيير واقعها السيئ، فإن لم تنجح في هذه الحركة وتطمئن على قوة الإرادة وصلابة العزيمة والشجاعة والايمان لدى الافراد، لن تلامس الأمل بتحقيق أي تقدم في مسيرتها وحركتها مهما قدمت، بل ربما تستمر التضحيات دون نتيجة.
وقد عانت العديد من الثورات في العالم من فشل التغيير الداخلي، قبل ان تصطدم بالفشل في التغيير الخارجي، ففي أجواء الحماس والاندفاع، يغيب عن الذهن ما تكنه النفوس من نوازع نفسية ربما يعدها البعض طبيعية، مثل؛ الحسد، والنفاق، والازدواجية، والتكبّر، والاستضعاف – التنمّر وفق المصطلح الحديث- هذه الحالات يعيشها أي انسان في مختلف الظروف، لذا نسمع من يتبرّم من الثورات لانها “تأكل ابنائها”، أو من يقول: بان “الثورات يصنعها الشرفاء، ويقوم بها الشجعان، ويستغلها الجبناء”.
ولكن! الامر يختلف تماماً في واقعة الطف، فالانطلاقة الاولى كانت من النفوس حيث كشف الامام الحسين، عليه السلام، أنه لا يذهب الى الكوفة لتولّي الحكم، وكما يفعل البعض؛ يعد المؤيدين والمناصرين، بفرص العمل والامتيازات والحياة الهانئة، إنما يذهب للإصلاح في الأمة، وفي آخر كلمة امام الناس في مكة قبل الانطلاق صوب كربلاء، قال، عليه السلام: “من كان فينا باذلاً مهجته، موطناً على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا، فإني راحلٌ مصبحاً إنشاءالله”. فقد وضع الامام الحسين، النفوس على المحك، فالتضحية من اجل القيم السماوية بحاجة الى شجاعة فائقة، وإيمان عميق ينتشل صاحبه من واقعه، وما يعيشه من خوف على عمله وأمواله وممتلكاته، لذا نلاحظ أصحاب النفوس الأبية هم من يحققون أعظم الانجازات، ويتحولون الى نماذج راقية في تغيير الواقع الفاسد، وإلا أين كان الحر الرياحي، وهو في الاصطلاح الحديث؛ كان أحد كبار الضباط في الجيش الأموي، من نهضة الامام الحسين، عليه السلام، ومسيرته من المدينة، ثم مكة المكرمة، ومنها الى كربلاء؟ كذا الحال؛ زهير بن القين، المعروف بميوله العثمانية، حتى جاء في التاريخ أنه كان يتجنب الاقتراب من الامام، او حتى مسايرة قافلته في الطريق الى العراق.
وبما أن رسالة الامام الحسين امتداد لرسالة جدّه المصطفى الى البشرية، فان منهج التهذيب النفسي استلهمه، عليه السلام، من القرآن الكريم، فهو الينبوع الرسالي الغُر، والآية الكريمة من سورة العنكبوت تبين لنا هذه الحقيقة النفسية: {والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا}، فالجهاد الذي يكون لله –تعالى- خالصا، هي تلك العملية التغييرية في المجتمع التي تسفر عن اقتلاع جذور الفساد والنفاق والانحراف من نفوس افراد هذا المجتمع؛ ذلك “أن للإنسان قوة خارقة في الخداع الذاتي فبالرغم من أنه تحمل مسؤولية رفضت السموات والارض والجبال تحمّلها وأشفقن منها، إلا أن نفسية هذا الانسان ظلومة وكفورة، تحاول أن تحجب الحقيقة عن ذاتها، بأن تخدعها وتخدع من حولها، ولذلك فان كل انسان ينطوي في داخله على نسبة من النفاق، فلا تنفع معه نصيحة الناصحين، ولا حتى صدمات ومآسي الحياة، فيبقى منافقاً بالنسبة الى نفسه والى الآخرين”(1) والامثلة في القرآن الكريم، ومن واقعنا الاجتماعي كثيرة ولا تُعد، فهي تواكبنا في حياتنا اليومية، فالانسان يدعو الى شيء، ثم ينكثه ويتنكّر له بعد فترة، وبكل بساطة، والسبب في ذلك أن دعوته الاولى لم تكن نابعة من أعماق قلبه ومن حقيقة إيمانه.
فاذا كان الحر او زهير، او غيرهما قبل اربعة عشر قرناً من الزمن، في ظروف مكنتهم من التغيير الذاتي ونصرة الحق، وإحراز نصر عظيم يشهد له التاريخ والاجيال، فاننا اليوم لدينا فرص من نوع آخر للتغيير ونصرة الحق وقيم النهضة الحسينية من خلال المشاركة في مراسيم إحياء هذه النهضة، مجرد حضورك في مجلس حسيني والاستماع الى محاضرة حسينية من خطيب، بمنزلة إعادة نظر فيما بعض القناعات والافكار غير الصحيحة، وهكذا سائر الشعائر الحسينية التي من شأنها المساعدة على التغيير الذاتي تدريجياً، لأن القضية لا تتم مرة واحدة، إنما على مراحل، فالانحراف الفكري والسلوكي ينشأ من صفات وخصال سلبية تجتمع لتصنع داينمو يحرك بالاتجاه الخاطئ، لذا قبل ان نفكر في تغيير واقعنا الفاسد، ومواجهة الانحراف الفكري والثقافي في المجتمع، علينا ان نحارب الفساد في داخلنا، و إزالة التراكمات السلبية من؛ جبن، وكسل، ويأس، فكل خطوة لازالة حجرة في هذا الطريق داخياً، نكون نجحنا في إزالة أحجار وعقبات في طريق التغيير والإصلاح في الواقع الخارجي.
وهذه واحدة من الأسرار التربوية في المدرسة الحسينية، حيث يتسائل الجميع عن سر التسابق والتنافس الغريب بين افراد المجتمع على المشاركة في مراسيم العزاء في شهري محرم وصفر، وأن يكون لهذا او ذاك الصدارة في الظهور لخدمة الزائرين، او المشاركة في مواكب العزاء، او إقامة المجالس الحسينية وغيرها، الامر الذي يتعين علينا فتح الابواب على مصراعيها لدخول الجميع في هذه المدرسة علّها تخرج أكبر عدد ممكن من الصالحين والمصلحين في هذا العام وكل عام.
———————————-
1-الامام الحسين، عليه السلام، مصباح هدىً وسفينة نجاة- المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي.

عن المؤلف

محمد علي جواد تقي

اترك تعليقا