ثقافة رسالية

نهج البلاغة والحياة [42] مسارات الاستفادة من العقل

حينما يُطلب منك شيئا اطرح على نفسك تساؤلا: ماذا ينفعني وماذا يضرني؟ وتدبّر عاقبة الامر، فالعقلاء اصبحوا بما هم عليه بهذا الامر، والعقل ليس سلعة نتشريها من البقّال أو العطّار، العقل في داخلنا نستشيره ونطرحه عليه التساؤلات، وكثير العلماء والحكماء ما وصلوا اليه إنما هو بطرح تساؤلات على انفسهم بين فترة وأخرى.

فإثارة العقول تكون من خلال التدبر والتفكّر، ومن خلال الرجوع الى الدِين والرسالة، كلها هذه جنود العقل، وفي كتاب بحار الانوار باب كامل ــ جدير بالمطالعة ــ تحت عنوان: كتاب العقل والجهل.

ولان فلسفة الاسلام تعد العقل هو الخلق الاول وسراج الانسان في ظلمات الحياة، فإن الاسلام يرى مجموعة أمور من نتاج العقل:

  •  الأول: الجانب العقدي

 قدِم المدينة رجل نصراني من أهل نجران وكان فيه بيان وله وقار وهيبة، فقيل: يا رسول الله ما أعقل هذا النصراني، فزجر القائل وقال: مه إن العاقل من وحد الله وعمل بطاعته”، وعن محمد بن عبد الجبار، عن بعض أصحابنا رفعه إلى أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت له: ما العقل؟ قال: “ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان”.

والقرآن الكريم يخاطب العقلاء وليس غيرهم من الهمج الرعاع، قال ــ تعالى ــ: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}، وتصف الآيات المباركة حوارا بين اصحاب الجنة، واصحاب السعير {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}، فمن يعطّل عقله يدخل النار، قال رسول الله، صلى الله عليه وآله: “أفضل الناس أعقل الناس”.

  • الثاني: الجانب الأخلاقي

قال النبي، صلى الله عليه وآله: “صفة العاقل أن يحلم عمن جهل عليه ويتجاوز عمن ظلمه، ويتواضع لمن هو دونه ، ويسابق من فوقه في طلب البر، وإذا أراد أن يتكلم تدبّر فإن كان خيرا تكلم فغنم وإن كان شراً سكت فسلم، وإذا عرضت له فتنة استعصم بالله، وأمسك يده ولسانه، وإذا رأى فضيلة انتهز بها، لا يفارقه الحياء، ولا يبدو منه الحرص، فتلك عشر خصال يعرف بها العاقل”.

 الانسان العاقل لا يُستفز بكلمات الجهّال، بل ما لديه من عقل يدفعه الى التأني، فكم من خطر يواجهه المؤمن، لكن بصفة الحلم يدفعه، وصفة العاقل أن يحلم عمن جهل عليه، {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً}، فالعاقل لا يصرف وقته وأعصابه للرد على الجهّال، وثمانون بالمئة من الصراعات في المجتمعات قائمة على انعدام الحلم، والعاقل يخرج سالما، فلا تراه يدخل في قضايا بسيطة وتافهة، فهو يعرف متى يثور، وأين يحلم.

“ويتجاوز عمن ظلمه” وهنا ليس المقصود الحكومات والطغاة الذين يظلمون الناس، بل الناس فيما بينهم، فالمؤمن يتجاوز عن المؤمن.

“ويتواضع لمن هو دونه” إذا تواضع إنسان كبير لصغير فهو يكسبه، والعاقل هو من يكسب الناس.

“يسابق من فوق بطلب البر” فالعاقل لا يفكر ان الذين سبقوه في العلم والحياة إنما بامتياز ذاتي عندهم، بل يفكر أن الجميع في طريق واحد وأنه عليه الاسراع حتى يصل اليهم، ولا يوجد عاقل يفكر ان العظماء يمتكلون شيئا لا يمتلكه هو، فما لدى العظيم يوجد لدى غيره، وإن استخدمه وصل الى  ذلك، فكم من إنسان صمّم على شيء ووصل اليه، ومع الاسف فإن بعض الناس يفكرون بأن الآمال تحدث بالصدف وهذا تفكير خاطئ، لان تحقيق الطموح و الآمال يكون بالكد، والتصميم، والارادة والتعقل.

“وإذا أراد أن يتكلم تدبّر فإن كان خيرا تكلم فغنم وإن كان شرا سكت فسلم” فالعاقل حين يريد الحديث فإما ان يتكلم بما فيه نفع السامعين، او يسكت إذا كان سيقول شرّا، فالانسان ليس مجبورا أن يتكلم دائما.

“وإذا عرضت له فتنة استعصم بالله وأمسك يده ولسانه” هنالك انسان يُعرض عليه امتحان؛ لذة محرمة، او منصب خلف مشاكل التجأ الى الله، وبحث عن حكم الله في ذلك الأمر.

“وإذا رأى فضيلة انتهز بها” العاقل ليس ذلك المسوّف الذي حين تأتيه فرصة من السماء يتركها ويدعها، ومن الاشياء التي يتميز بها الناجح أنه إذا جاءته الفرصة ينتهزها ويستفيد منها، والعاقل هو الذي إذا رأى  شيئا جيد عمله ولا يتساءل كثيرا، و يؤجل قبول النصيحة.

  •  الثالث: الجانب الاجتماعي

فمن من نتاج العقل ان يكون الانسان اجتماعيا له اصدقاء، لان الانسان الاحمق هو الذي يقول: انا الوحيد الذي لا أملك صديقا في هذه الدنيا! وهذه علامة الحمق، لان العاقل هو الذي لديه عقول يرجع إليها، قال النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله: رأس العقل بعد الايمان التحبب الى الناس”.

والتحبب الى الناس يكون بوسيلة يحبونها هم لا وسيلة تحبها أنت، فبالصراخ لا تستطيع ان تصيد طيرا صغيرا جميلا، و”قلوب الناس وحشية” تتنفر بسرعة ولذا يحتاج الانسان الى إمتلاك الاسلوب المناسب في كسب الناس وهذا يأتي من العقل.

وفيما يرتبط بالجانب الاجتماعي ايضا هو تنظيم أمور الحياة؛ وهذا التنظيم فيما ينفع في الدنيا والآخرة، قال النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله: “ينبغي للعاقل إن يكون له أربع ساعات من النهار ساعة يناجي فيها ربه وساعة يحاسب فيها نفسه وساعة يأتي فيها الى أهل العلم الذين ينصرونه في دينه وينصحونه وساعة يخلي بين نفسه ولذتها من أمر الدينا فيما يحلّ ويُحمد”.

العاقل هو الذي يقسّم وقته الى هذه الأمور الأربعة وأولها هو الارتباط بالله، لانه هو مصدر كل خير للانسان، لذا تجد الكثير من الناس يتقربون الى رئيس الدولة او الحاكم لانه يراه المصدر الذي قد يجعل منه مليونير.

 والساعة الثانية يخصصها العاقل لتربية نفسه وتطويرها لا انه إذا وضع في طريق يمشي فيه، ثم يستيقض بعد الموت فيجد نفسه على باطل ومن ثم العقاب، والساعة الثالثة يذهب الى اهل العلم الذي ينصحونه، والساعة الرابعة للجسد فيما يحل من اللذات من النوم والأكل وما شابه ذلك.

  • الجانب الرابع: الاهتمام بالعلم

قال النبي الاكرم، صلى الله عليه وآله: إن العقل عقال من الجهل”، والنفس مثل اخبث الدواب إن لم تعقل حارت”، فإن لم تُضبط النفس ستفسد في الحياة وتظلم الآخرين كما يفعل الطغاة.

  • الجانب الخامس: التجرية

قال أميرالمؤمنين، عليه السلام: “العقل عقلان عقل الطبع وعقل التجربة وكلاهما يؤدي الى المنفعة”  عقل الطبع يأتي مع الانسان او يرثه وهذا مجاله محدود، لكن عقل التجربة او سع من ذلك”، ومن ليس له عقل فرأس ماله المعصية”.

  • الجانب السادس: تمييز الامور وترتيبها حسب الأهمية

قال أمير المؤمنين، عليه السلام: ليس العاقل من يعرف الخير من الشر ولكن العاقل من يعرف خير الشرين”. وترتيب الامور حسب الأهمية من نتاج العقل.

إن هذه الأمور وغيرها من شأنها تقويم العقل إذا التزم الإنسان بها، لان الدِين يريد من الانسان ان يكون عاقلا لا في الجانب النظري وحسب، بل لابد أن تترجم آثار العقل الى سلوكيات عملية، وهذه الأمور ــ في نظر الاسلام ــ هي التي تنمي العقل، لا أن يكتفى بالجانب النظري فقط في تقويم العقل.


  • مقتبس من محاضرة لآية السيد هادي المدرّسي (حفظه الله).

عن المؤلف

هيأة التحرير

اترك تعليقا