مناسبات

فِي الغَارِ انْبَعَثَ النُّورُ وَنَزَلَ القُرآنُ

في يوم الاثنين (27) من رجب قبل الهجرة بثلاثة عشر عاماً، وبعد عام الفيل بأربعين عاماً، وفي 610م

  • مقدمة نورانية

النور من أسماء الله ــ تعالى ــ، ولكن له مثال لنوره في هذه الحياة وهي في قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (سورة النور: 35).

والمَثَلُ لنور الله هو في كتاب الله وهو القرآن الحكيم، {جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ}، (سورة المائدة: 15)، وفي رسول الله، صلى الله عليه وآله، وأهل بيته الأطهار {رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ}. (سورة النور: 37)، ولكن كيف بدأت انبثاقة النور، وأين نزل القرآن الحكيم في الرِّسالة الخاتمة؟

  • غار حراء في جبل النور

هناك في قمَّة جبل النور غار يسمَّى بغار حراء كان من عادة عبد المطلب -إبراهيم الثاني- يذهب ويتعبَّد (يتحنَّث) في ذلك الغار، وهي العادة التي ورثها حفيده محمد بن عبد الله حيث كان يذهب إلى ذلك الغار ويتعبَّد الله سبحانه ويتفكَّر في آيات وعظائم خلق الله ــ تعالى ــ، وليس كما تصوِّره كتب القوم قطعاً، بحيث أنه كان ذا شخصية مهزوزة، وغير واثق بنفسه حتى ثبَّتته السيدة خديجة التي كانت واثقة منه أكثر من نفسه، وأخذته إلى ابن عمِّها النصراني الأعمى ليقول له: (أن هذا الناموس الذي نزل على موسى)، ولا أدري بما أنه نصراني لماذا الذي نزل على موسى وليس على عيس المسيح (عليهم السلام)؟

🔺 العنوان العريض والصفة الراقية للرسول الأعظم هي أنه يمثِّل رحمة الله واسم الرَّحمن الرحيم في هذه الدنيا، ولذا قال له ربنا سبحانه وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}.

ثم أنه كان خائفاً مرعوباً من طريقة تعامل ملاك الوحي سيدنا جبرائيل (عليه السلام) معه بحيث أنه عامله بقسوة بالغة حتى كان يظن أنه الموت ولعدة مرات أيضاً، ولما يحتبس عنه يذهب ليلقي نفسه من أعالي الجبال، فيتمثل له جبرائيل يجلس على كرسي بين السماء والأرض، فيردعه وهكذا يصورون رسول الله الخاتم وكأنه شخصية متزلزلة ولم يكن على يقين من أمره، ولكن الحقيقة لم تكن كذلك قطعاً.

  • البعثة الشَّريفة بالرَّحمة

في ذلك الشهر المحرَّم رجب الأصب، وفي السابع والعشرين منه وحيث كان محمد بن عبد الله وربيبه علي بن أبي طالب في غار حراء نزل عليهم ملاك الرَّحمة والوحي بالنور الذي أضاء الكون، ونأخذه من الإمام علي الهادي، عليه السلام حيث يقول: “كَانَ يَغْدُو كُلَّ يَوْمٍ إِلَى حِرَاءَ يَصْعَدُهُ، وَيَنْظُرُ مِنْ قُلَلِهِ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اَللَّهِ وَأَنْوَاعِ عَجَائِبِ رَحْمَتِهِ وَبَدَائِعِ حِكْمَتِهِ، وَيَنْظُرُ إِلَى أَكْنَافِ اَلسَّمَاءِ وَأَقْطَارِ اَلْأَرْضِ وَاَلْبِحَارِ، وَاَلْمَفَاوِزِ، وَاَلْفَيَافِي، فَيَعْتَبِرُ بِتِلْكَ اَلْآثَارِ، وَيَتَذَكَّرُ بِتِلْكَ اَلْآيَاتِ، وَيَعْبُدُ اَللَّهَ حَقَّ عِبَادَتِهِ فَلَمَّا اِسْتَكْمَلَ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَنَظَرَ اَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى قَلْبِهِ فَوَجَدَهُ أَفْضَلَ اَلْقُلُوبِ وَأَجَلَّهَا، وَأَطْوَعَهَا، وَأَخْشَعَهَا، وَأَخْضَعَهَا، أَذِنَ لِأَبْوَابِ اَلسَّمَاءِ فَفُتِحَتْ، وَمُحَمَّدٌ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) يَنْظُرُ إِلَيْهَا، وَأَذِنَ لِلْمَلاَئِكَةِ فَنَزَلُوا وَمُحَمَّدٌ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَأَمَرَ بِالرَّحْمَةِ فَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِ مِنْ لَدُنْ سَاقِ اَلْعَرْشِ إِلَى رَأْسِ مُحَمَّدٍ وَغَمَرَتْهُ”.

هكذا بدأت البعثة الشريفة بهذا التعظيم والإكرام والإجلال للحبيب المصطفى، وليس كما يصفونه في كتبهم ومصنفاتهم بتلك الطريقة الداعشية الإرهابية، وكأن الله تعالى ينزل على حبيبه العذاب -والعياذ بالله- وليس الرَّحمة والنور والرسالة الخاتمة، ويبعثه بذلك كله للناس كافة بشيراً ونذيراً.

  • نزول القرآن الحكيم

وبنفس الطريقة وبذات السياق الرحماني الملائكي، ونجد الحديث عن الإمام الهادي يصف نزول أمين وحي الله على رسول الله بكلام الله النوراني المعجز حيث يقول، عليه السلام: “وَنَظَرَ إِلَى جَبْرَئِيلَ اَلرُّوحِ اَلْأَمِينِ اَلْمُطَوَّقِ بِالنُّورِ، طَاوُوسِ اَلْمَلاَئِكَةِ هَبَطَ إِلَيْهِ، وَأَخَذَ بِضَبْعِهِ وَهَزَّهُ وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ اِقْرَأْ. قَالَ: وَمَا أَقْرَأُ؟ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ {اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ اَلَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ اَلْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ}، إِلَى قَوْلِهِ: (مَا لَمْ يَعْلَمْ)، ثُمَّ أَوْحَى [إِلَيْهِ] مَا أَوْحَى إِلَيْهِ رَبُّهُ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ صَعِدَ إِلَى اَلْعُلْوِ، وَنَزَلَ مُحَمَّدٌ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) مِنَ اَلْجَبَلِ وَقَدْ غَشِيَهُ مِنْ تَعْظِيمِ جَلاَلِ اَللَّهِ، وَوَرَدَ عَلَيْهِ مِنْ كَبِيرِ شَأْنِهِ مَا رَكِبَهُ بِهِ اَلْحُمَّى وَاَلنَّافِضُ”.

نعم؛ بهذه الطريقة الرحيمة، والمعاملة الكريمة جاء جبرائيل المهذب جداً كان مع رسول الله الذي كان يفتخر على الملائكة بأنه من أهل البيت حيث أذن له رسول الله أن يدخل معهم تحت الكساء اليماني في قصته المشهورة، بل وكان خادماً لأهل البيت الأطهار، عليهم السلام، فيناغي الإمام الحسن ويهزُّ مهد الإمام الحسين، ويطحن بالرَّحى مساعدة للسيدة فاطمة الزهراء (عليهم سلام الله جميعاً) فكيف يصفون تعامله مع الرسول الأعظم بتلك الفظاظة والغلظة وهو الذي لا يقف أمامه إلا بكل احترام وأدب وإعظام وإكبار وإجلال؟

  • من مظاهر الرَّحمة والعظمة

الرسول الأعظم محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وآله، الذي ما عرفه إلا الله وصنوه أمير المؤمنين إلا أن سيدنا جبرائيل أعلم خلق الله به أيضاً وهو الذي رافقه طيلة حياته الشريفة لا سيما في سنوات الرسالة والتبليغ لآيات القرآن الحكيم حيث كان لا يغيب عنه إلا لحكمة ربانية وإرادة إلهية، بل كان حاضراً عنده في كل كبيرة وصغيرة وشاهداً على عظيم أخلاقه وحكمته وحلمه وصبره وسعة صدره كيف لا والرب سبحانه وتعالى يقول عنه من فوق سبع سماوات: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}. (سورة آل عمران: 159).

🔺 المبعث الشريف لم يكن في عمق الزمن كما ينظر له الآخرون من غيرنا، بل هو في عمق المستقبل

فالعنوان العريض والصفة الراقية للرسول الأعظم هي أنه يمثِّل رحمة الله واسم الرَّحمن الرحيم في هذه الدنيا، ولذا قال له ربنا سبحانه وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}. (سورة الأنبياء: 107)، فهو رحمة واسعة وشاسعة ونعمة إلهية سابغة على هذا الأمة، وقد انطلقت في يوم المبعث الشريف لأنه انطلق من نفسه القدسية إلى الأمة لتتمظهر الأمة بالرحمة لأن رسولها يقول لها: (إنما أنا رحمة مهداة) لك إذا ما اقتديت بي اهتديت إلى نجاتك في دنياك وأخراك.

  • القرآن الحكيم رحمة

في يوم المبعث نزل جبرائيل بأمر الله ــ تعالى ــ أن ينطلق ويشع نور القرآن الحكيم في الجزيرة العربية ثم في الأمة العربية ومن خلالها إلى العالم أجمع، وعنوان القرآن الحكيم الرحمة أيضاً لأن كل سوره ابتدأت بـ”بسم الله الرحمن الرحيم” وصفة الرحمة لا تخلو منها سورة من سوره المباركة فالقرآن كتاب نور ورحمة وبركة وهداية، ولذا نجد أن آيات الرَّحمة من أجل وأجمل آيات هذه الصحيفة النورانية السماوية التي ختمت واشتملت جميع كتب السماء.

  • حاجتنا للبعثة الشريفة

في هذا العصر المتطور والمتقدم تقنياً وتكنلوجياً بشكل رهيب حيث غابت الروحانيات والمعنويات وسادت الماديات بما صنعته هذه الثورة الرقمية من أدوات خلبت العقول وأذهلت الألباب عند أجيال الشباب ففقدوا توازنهم حيالها وكثير منهم صدقها في زخرفها وانبهر في لمعانها وانساق مع توافهها دون تفكير أو حتى تأمل فيما يراه وظن أن الدنيا كلها هي هذا الضجيج.

ولكن الحق الذي يجب أن نعرفه جيداً -لا سيما شبابنا الأعزاء- أن هذا لا شيء بالنسبة لحضارتنا الإنسانية الراقية التي سيشهدها العالم أجمع في دولة صاحب الأمر وناموس الدهر الحجة بن الحسن المهدي، عجل الله تعالى فرجه الشريف، حيث أنه أول ما سيفعله كما في حديث الإمام الباقر: “إذا قام قائمنا وضع الله يده على رؤوس العباد فجمع بها عقولهم وكملت بها أحلامهم)، وفي رواية: وأكمل به أخلاقهم” فهل تعلمون أيها الشباب ما معنى ذلك؟

وهل تعلمون -أيها الأعزاء- أن عباقرة العالم مثل لافوازيه، وآينشتاين، ونيلزبور، وأمثالهم ممَّن كان لهم الفضل بهذه القفزة النوعية للحضارة البشرية التي نشهدها اليوم أنهم لم يستخدموا من طاقات أدمغتهم أكثر من 2 – 4 % فقط فكيف إذا كنتم من أولئك الذين تكتمل عقولهم؟ فما الذي يمكن لكم أن تفعلوه على مستوى الحضارة الإنسانية التي ستحكم العالم بالحق والعدل وحتى أن المال سيكون مكدساً في الطرقات لا أحد يأخذ منه إلا حاجته؟

وهل تعلمون أنكم عندما تكتمل عقولكم، وأحلامكم، وأخلاقكم فإنكم تكونون مؤهلين لمعرفة تأويل وتفسير القرآن الحكيم لأنكم من المسؤولين عن ذلك في جميع الشعوب والأمم فأنتم العلماء والحكام على الناس في تلك الدولة الربانية التي ينعدم فيها الظلم والجور والطغيان وكل ذلك بقيادة حكيمة للإمام المهدي (عليه السلام)، ودستور حكيم هو القرآن الكريم الذي نزل في مثل هذا اليوم العظيم من شهر رجب الأصب؟ فالمبعث الشريف لم يكن في عمق الزمن كما ينظر له الآخرون من غيرنا، بل هو في عمق المستقبل الذي ننتظره وننظر إليه ونأمل أن نكون من حملة القرآن الحكيم والمبشرين بالمبعث الذي سيتأول في دولة العدل المنتظرة وتحقيق حلم الأنبياء والمرسلين لا سيما الحبيب المصطفى، بدولته في آخر الزمان كما بشَّرنا بها منذ قرون خلت من البعثة، فالبعثة منطلق وشعاع، والمستقبل زاهر ومشرق به.

عن المؤلف

الحسين أحمد كريمو

اترك تعليقا