ثقافة رسالية

نهج البلاغة والحياة (39) يمكن للفقير أن يكون أغنى من الغني

قال أمير المؤمنين، عليه السلام: “أشرف الغِنى ترك المُنى”.

الغِنى الذي نفهمه هو أن يكون عند انسان شيئاً يستغني به عن امثاله، فالغني بالمال هو ذلك الذي يمتلك مالاً فلا يحتاج الى غيره في المال، والغني في العلم هو الذي عنده العلم فلا يحتاج الى غيره فيه، وكذا في بقية الأمور الأخرى، وبمعنى آخر فقدان العوز الى الشيء بامتلاك مثله.

 إلا ان هذا النوع من الغِنى ليس أشرف انواعه، لان من يمتلك الشيء ويستغني به عن امثاله له جانب سلبي آخر، وهو تعلق قلبه بالشيء، فذلك الثري الذي يملك الملايين يستغني بها عن غيره، ولكنه يصبح عبداً لتلك الملايين، وقلبه معلّقا بها فهو ما يرتبط بها ليس غنياً وانما هو فقير ومحتاج اليها.

⭐ المُنى تعني ذلك الامل الكاذب بتحقيق المعجزة، او ذلك الامل الكاذب بتحقيق شيء يتعذّر، خاصةً بدون ان يوفّر الانسان وسائله

بينما الفقير الى المال لكنه يمتلك غِنى النفس، ويمتلك ترك المُنى، فهذا غنيٌ مطلق، قال امير المؤمنين عليه السلام: “الغِنى غِنى النفس”، فحينما تكون النفس غنيةً، وتترك المُنى فهي الغنية بالحقيقة.

والسؤال: لماذا أشرف الغنى ترك المُنى؟

المُنى تعني ذلك الامل الكاذب بتحقيق المعجزة، او ذلك الامل الكاذب بتحقيق شيء يتعذّر، خاصةً بدون ان يوفّر الانسان وسائله، والقرآن الكريم يعبّر عنها بالأماني، كأن يرغب الانسان بتحقيق شيء لكن ذلك الشيء لا يكون، او يريد انجاز شيء بدون توفر المقدمات، قال ــ تعالى ــ: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً}.

وهذا النوع من الأماني يدفع الانسانَ الى الوضع المشين والعمل الحقير، مثلاً؛ من عنده أمنية الزواج من فتاة جملية تراه يذلّ نفسه للوصول الى تلك الامنية، فلا يكون في وضع كريم، و ربما يبيع أخلاقه وآدابه، او إنسان آخر مهووس بالسلطة وعاشق لها، فمثل هذا الرجل مستعد ان يضع يده بيد الشيطان، وان يرتكب كل ظلم وخسّة وعمالة من اجل الوصول الى السلطة.

من هذه الرواية (اشرف الغنى ترك المُنى) نفهم قضية أخرى في حياة الانسان؛ ان الناس على نوعين: أناس واقعيين، و آخرين خياليين.

الانسان الواقعي هو الذي يبحث عن تحقيق احلامه بالعمل والجهد، لا بالتخيل والأماني، أما الانسان الخيالي فليس مستعدا ان يضحي ويكافح وان يتحمل الآلام، فهو يبني أماله لكن واقعه مزرٍ.

ذات مرة سألني احد الشباب: لماذا حرّم الله الأغاني؟

قلت له: لا أبين العِلة والسبب، لكن ببيان آثار الغناء تعرف لماذا حُرّم.

⭐ الانسان الواقعي هو الذي يبحث عن تحقيق احلامه بالعمل والجهد، لا بالتخيل والأماني، أما الانسان الخيالي فليس مستعدا ان يضحي ويكافح وان يتحمل الآلام

فذلك الحمّال الذي لا يجد قوتاً لعياله، إذا أصيب بمرض فإن عياله سينامون على بطون خاوية، والذي لا يملك بيتاً يقيه الحر والبرد، ويفتح أغاني يُخيل اليه انه في الجنان وفي احضان الحور لكن واقعه؛ أنه يتكئ على برميل قمامة وعلى وجهه الذباب.

الأماني ترفع الانسان الى ابراج عاجية، وقصوراً لا وجود لها على ارض الواقع، وعندما يصطدم بالواقع في لحظة خاطفة، يكتشف حينئذ أي وضع مزرٍ كان يعيشه.

الانسان الواقعي يعرف واقعه، و يعرف أن تغيير هذا الواقع لن يكون إلا بالجهد والعمل فيستغني عن الأماني ويتعلق بالأعمال، اما الخيالي حين يُكلف بمهمة يقول: أنا اكبر منها ويتهرب من تحملها، ويعيش أحلاماً لا واقع لها.


  • مقتبس من محاضرة لآية الله السيد هادي المدرسي

عن المؤلف

هيأة التحرير

اترك تعليقا