مناسبات

كيف نصوم؟

الصوم من العبادات البديهة المسلّم فيها بين المسلمين جميعا، واحكامها لا تخفى على احد لشدة وضوحها؛ فما من مسلم لا يعرف ان الأكل، والشرب، والجماع والارتماس في الماء..، من مفطرات الصائم في نهار شهر رمضان المبارك.

في نهار شهر رمضان يضحي الإنسان المؤمن بترك الطعام، والشراب، والكف عن المعاشرة الجنسية، وهذا بحد ذاته تنمية لروح الإنسان، وتقوية لإرادته، وشحذ لهمته لمواجهة خطوب الحياة المختلفة.

وحينما يكف الإنسان عن ممنوعات الصيام فهو بذلك يخطو خطوات الى الأمام للتحكم بزمام نفسه، والسيطرة على شهواته المحلّلة والتحكم بها انجاز مهم، يتحقق عبر الصيام، لكن النصوص الدينية ومن خلال نظرة عامة عليها، أرادت للإنسان المؤمن أن لا يتوقف عند هذا الحد وحسب، بل طالبت أن يحقق الإنسان الغاية المرجوة من الصوم، وهي التقوى.

بالعودة الى الآية الكريمة في سورة البقرة، والتي تحدثث عن فرض الصيام وفلسفته نجد أنها جعلت الغاية تحقيق التقوى، يقول ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، ولو امعنا النظر في ذيل هذه الآية، وتدبرنا فيها، نجد أن جاءت بصيغة الجمع: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.

⭐ تحقيق التقوى الاجتماعية غاية ينشدها الصوم، وهذا هو الحال في بقية الأعمال العبادية الأخرى، كالحج والصلاة، والزكاة، والتقوى مفهوم عام ينضوي تحتها الكثير من المصاديق المختلفة

صحيح أن الإنسان المؤمن قد يحقق من خلال الصيام التقوى الفردية له وحده، فيستطيع أن يكبح جماح شهواته، ويغض طرفه عن الحرام، ويصل الى مكاسب تربوية وأخلاقية فردية، لكن المطلوب ـ وحسب ظاهر الآية ـ هو الوصول الى التقوى الجماعية بين أفراد المجتمع المؤمن؛ فمثلا من حِكم الصيام الاجتماعية على لسان الإمام الصادق، عليه السلام، فعن هشام بن الحَكَم، انه سأل أبا عبد الله (الصادق) عن الصيام، فقال عليه السلام: إنما فرض الصيام ليستوي به الغني والفقير، وذلك ان الغني لم يكن ليجد مسّ الجوع فيرحم الفقير لأن الغني كلما أراد شيئا قدر عليه، فأراد الله أن يسوّي بين خلقه، وأن يذيق الغني مسّ الجوع والألم ليرقّ على الضعيف ويرحم الجائع”.

من هذه الرواية الشريفة نستشف حكمة من حِكم الصيام وهي ان يتحسس الأغنياء ما يكابده الفقراء حين يقاسون ألم الجوع، ونستطيع ان نعبر عن هذه الحِكمة من حِكم الصيام “فوائد الصيام الاقتصادية”، فالمؤمن الغني عندما يعاني بذاته من ألم الجوع، سيتحسس معاناة المؤمنين الفقراء، وبالتالي يندفع الى مساعدتهم، ليس فقط في شهر رمضان، وإنما في بقية شهور السنة، وهنا المساعدة قد لا تحصر بعطاء مالي وحسب، بل ربما تتطور الى تشغيل الأيادي العاملة الفقيرة، وتطوير المهارات المختلفة لصقلها ثم بثها في المجتمع لتمارسها دورها في مختلف الجوانب الحياتية، وهذه الحالة تكون مصداقا للدعاء الذي نقرأها في أيام شهر رمضان: “..اللهم اغنِ كلَّ فقير، اللهم اشبع كل جائع، اللهم اكس كل عريان، اللهم اقضِ دَين كل مدين”، فتحقيق الغنى للفقير لا يقتصر على الدعاء له فحسب، بل بمد يد العون له، وهذا لا يعني اعطائه مبلغا من المال لان الغنى بهذا المفهوم لا يتحقق، إنما قد يكون بتوفير عمل مناسب له، او تطوير مهارة من مهارته ليتمكن من مواجهة مصاعب الحياة وتقلباتها، وكذا الحال في اشباع الجائع، وإكساء العريان، فلا يكفي ان ندعو لهم فحسب، وإن كان الدعاء بحد ذاته مطلوبا، إلا أن فلسفة الدعاء عند أهل البيت، عليهم السلام، تقتضي الدعاء، والعمل.

⭐ المؤمن الغني عندما يعاني بذاته من ألم الجوع، سيتحسس معاناة المؤمنين الفقراء، وبالتالي يندفع الى مساعدتهم، ليس فقط في شهر رمضان، وإنما في بقية شهور السنة

تحقيق التقوى الاجتماعية غاية ينشدها الصوم، وهذا هو الحال في بقية الأعمال العبادية الأخرى، كالحج والصلاة، والزكاة، والتقوى مفهوم عام ينضوي تحتها الكثير من المصاديق المختلفة، فكف الأذى عن المسلم من التقوى، وحسن التعامل مع الأهل والأولاد من التقوى، كذا محض النصيحة للأخ المؤمن من التقوى، وهذه من ميزات الصيام بشكل خاص، وبقية الأحكام الشرعية بشكل، هي انها تسعى الى تحقيق المكاسب المادية والمعنوية لكل فئات المجتمع، وقلّما نجد أحكام لها منافع خاصة بالفرد كفرد.

إذن؛ نحن بحاجة الى أن نصوم لا لنكف أنفسنا عن الطعام والشراب والجنس فقط، لان “الصيام هو ليس الصيام الظاهري فحسب، وانما هو امتناع عام عن كل المحرمات الظاهرية والبطانية، فإن من الناس من تسوء أخلاقه أثناء الصيام، في حين يدعونا الصيام الى البشاشة والطلاقة والتطور الروحي لما فيه انعتاق عن المادة”. (أحاديث رمضانية، المرجع المدرّسي).

ونختم هذا المقال، برواية عن أبي عبد الله الصادق، عليه السلام قال: سمع رسول الله، صلى الله عليه وآله، امرأة تسابُّ جارية لها وهي صائمة، فدعا رسول الله، صلى الله عليه وآله بطعام فقال لها: كُلي، فقالت: أنا صائمة يا رسول الله، فقال: كيف تكونين صائمة قد سببتِ جاريتك”. فلنعُد الى أنفسنا ولنسألها: كيف ولماذا الصيام؟

عن المؤلف

أبو طالب اليماني

اترك تعليقا