ثقافة رسالية

بناء الشخصية وفق القيم

الكون قائم على القيم، وهذا هو المقصود بالحق الذي أكد القرآن الكريم على بناء الكون عليه: {وهو الذي خلق السماوات والارض بالحق}، والحق لا يتحول الى باطل، والباطل لن يكون بديلا عن الحق.

كما ان بناء بيت بسيط لابد أن يأتي على أسس سليمة، إذ لا يمكن أن تبني كوخا على قاعدة غير ثابتة، فكيف بأن تبني بناية على رمال متحركة، كذلك لا يمكن بناء شخصية إلا على قاعدة القيم، فدور القيم في بناء الشخصية هو مثل دور الثوابت في الحياة، لان هذه القيم لا تتبدل ولا تتحول، ولا تتغير، لانها سنة الله، وسنة الله تعني طريقته الثابتة في إدارة الكون: {فلن تجد لسنت الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا}، وكما ان الحق لا يتبدل الى الباطل، كذلك الاسس التي لابد من الاعتماد عليها في بناء الشخصية لا تتبدل.

من أهم تلك الاسس ان الشخصية متماسكة؛ أي ان يكون البناء الداخلي لها قائما على الثوابت مثلا الالتزام بالحق، والابتعاد عن الباطل، والصدق في المعاملة، وكذلك الامانة، والوفاء بالوعد وبقية المفردات الاخلاقية، وكل هذه المفردات هي قيمٌ حقّة.

لا يمكن أن يكسب الانسان الناس عن طريق الكذب والدجل، وكما يقول المثل: من الممكن ان تكذب على شخص واحد لمرة واحدة في قضية واحدة، أما ان تكذب على كل الناس ودائما وفي مختلف القضايا فهذا لا يكون، فأنت لو ذهبت الى بقال، واشتريت منه بضاعة بسيطة فخدعك فيها، فلن تعود اليه مرة ثانية، وصدق أمير المؤمنين، عليه السلام: “من عُرف بالكذب قلت الثقة به”.

⭐ من أهم تلك الاسس ان الشخصية متماسكة؛ أي ان يكون البناء الداخلي لها قائما على الثوابت

كذلك فيما يرتبط بالعلاقات الاجتماعية التي لا يمكن إقامتها إلا على اساس الصدق، والأمانة، والوفاء، فالكذّاب، والخائن، والذي لا يتلزم بأصول التعامل مع الآخرين لن ينجح في حياته.

من هنا فمن يريد ان يمتلك شخصيةً قوية؛ فعليه ان يلتزم بالصدق، حتى وان ادى ذلك الى خسارته شخصيا، ذلك ان “الصدق يُنجيك وإن خفته”، فإذا انت التزمت بالصدق وخسرت، فإنك تعوض الخسارة اضعافا فيما بعد، فـ “الصدق نجاح”، وأمير المؤمنين، عليه السلام يوصي بالتمسك بالصدق فيقول: “الزم الصدق وإن خفت ضره فإنه خير لك من الكذب المرجو نفعه”.

تُرى، لماذا يشتري الناس مختلف أنواع البضائع، من الطائرات، والسيارات، والقاطرات، والأجهزة الالكترونية وغيرها، يشترونها من الشركات التي لها سمعة طيبة؟ مع انهم حينما يشترون بضاعة من شركة معروفة، فإنهم يدفعون تقريبا ثلاثين بالمئة قيمة إضافية، أليس لانهم يثقون بهذه الشركات ويعتمدون عليها لصدقها في التعامل، مع ان هنالك دائما في السوق بضائع من شركات غير معروفة، لها بضائع من نفس النمط الذي لدى الشركات المعروفة، وربما لا يختلف في الشكل، ولا تختلف النوعية ايضا، ومع انها أرخص من البضائع التي تأتي من الشركات المعروفة، فلماذا لا تشتري منها وهي ارخص؟ ببساطة لانك لا تثق بها.

ومن هنا تجد ان الشركات الكبرى تلتزم الصدق، ولو على حساب مصالحها، فكم من مرة نسمع في الاخبار ان شركة معينة من الشركات المعروفة استرجعت بضائعها من السوق؛ لانه تبين وجود خلل بسيط فيها، فشركات السيارات ـ مثلا ـ تسترجع سيارة معينة من السوق، وذلك بعد ان تبين لها بعد الاسخدام وجود خلل فيها، ولو بشكل جزئي، وتخسر احيانا مئات الملايين من الدولارات، وكذلك في بضائع اخرى مثل الاغذية وما شابه ذلك، وكل ذلك لكسب ثقة الناس، والتاكيد على المصداقية.

وهكذا فان بناء الشخصية القوية يعني بناء الشخصية المتماسكة، ولا تكون متماسكة إلا إذا كانت ملتزمة بالقيم والمُثُل التي جاء بها الانبياء عليهم السلام.

وحتى فيما يرتبط بالحلال والحرام، فكل الاحكام تدورحول محور القيم، فالظلم حرام، والعدل واجب، الصدق مطلوب، والكذب مرفوض.

⭐ ان من يلتزم بالقيم على الاقل يربح نفسه، ومن لا يلتزم بها ـ وحتى لو ربح  الاخرين ـ يكون قد خسر نفسه

ثم ان من يلتزم بالقيم على الاقل يربح نفسه، ومن لا يلتزم بها ـ وحتى لو ربح  الاخرين ـ يكون قد خسر نفسه، فالكذّاب يعرف انه كذاب، فلو ربح عن طريق الكذب، فإنه يخسر ضميره ووجدانه، وخسارة الضمير اكبر من خسارة المال،  لان خسارة المال  لا تسلب منك راحتك، ولكن خسارة الضمير تعني ان تعاني من عذاب الوجدان، وان كنت في افضل الاحوال من الناحية المادية، ألا ترى كيف ان بعض المجرمين يسلّمون انفسهم للسلطات القضائية بعد مرور فترة من الزمن، مع ان جرائمهم لم تُكشف، لكنهم يسلّمون انفسهم ويقولون: كنا نعيش هذه الفترة في عذاب الضمير، فلم نكن نرتاح في ليل ولا في نهار.

يقول أمير المؤمنين، عليه السلام: “يكتسب الكاذب بكذبه ثلاثا: سخط الله عليه، واستهانة الناس به، ومقت الملائكة له”. بينما الذي يلتزم بالقيم يكون الامر بالنسبة اليه عكس ذلك، فان ربح من الناس ربحا ماديا فهو في هدوء وطمأنينة وسلام مع نفسه، وان خسر لا يخسر الهدوء والطمأنينة والسلام مع نفسه. احد الاشخاص استولى على بيت رجل ظلما وعدوانا، ثم ان صاحب البيت بعد مرور سنوات طوال اشتكى الى القضاء لاستراجاع ملكه، فقلت له: إن خسرت الدعوى فأنت رابح، لان الحق معك، بينما الغاصب وان ربح فهو خاسر لان الحق ضده”، فبناء الشخصية لابد ان يكون على القيم والمثل التي اقام الله الكون عليها، يقول أمير المؤمنين، عليه السلام: “وصول المرء الى كل ما يبتغيه من طيب عيشه وأمن سربه وسعة رزقه، بنيته وسعة خلقه”.

عن المؤلف

آية الله السيد هادي المدرسي

اترك تعليقا