أسوة حسنة

حَمَلة العلم في ميزان أمير المؤمنين عليه السلام

يشكّل العلم والمعرفة ركيزة أساسية في تقدم الانسان كفرد والمجتمعات كمجموع، إذ بدون العلم يبقى الانسان أسير التخلف والانحطاط، وكمثال حيّ نقرأ عن حالة الانسان العربي قبل مجيء الاسلام؛ فقد كان العرب يعيشون {ضَلالٍ مُبِينٍ}، وهو تعبير يحمل في طياته كل معاني الضلال؛ فهناك ضياع في العقائد، فكانوا يعبدون الاصنام التي تصنع من الأحجار والأخشاب، وكان هناك ضياع في الحالة الاجتماعية الى الحال الذي وصل بهم أن يئدوا بناتهم احياءً ويرون في ذلك الفخر.
يقول أمير المؤمنين، عليه السلام: “الجهل أصل كل شر”، ومن هنا كان للعلم تلك الفضيلة الكبيرة، لأن من شأنه ان ينقل الانسان من حالة الوضاعة والسفه، الى رحاب الفضيلة والدرجة العالية، لذا نجد أن الإسلام وبتأكيد كبير وعجيب يؤكد على أهمية تحصيل العلم والمعرفة تحت أي ظرف كان، يقول الإمام الصادق عليه السلام: ” اطلبوا العلم ولو بخوض اللجج وشق المهج”.
“والأهمية الخاصة التي أولاها الإسلام لمسألة التعليم والتعلم، إلى الدرجة التي ألزم فيها المسلمين بأن لا يذهبوا جميعا إلى ميدان الحرب، بل يجب أن يبقى قسم منهم لتعلم الأحكام والمعارف الإسلامية.
إن هذا يعني أن محاربة الجهل واجب كمحاربة الأعداء، ولا تقل أهمية أحد الجهادين عن الآخر. بل إن المسلمين مالم ينتصروا في محاربتهم للجهل واقتلاع جذوره من المجتمع، فإنهم سوف لا ينتصرون على الأعداء، “لأن الأمة الجاهلة محكومة بالهزيمة دائما”.

⭐ قيمة الانسان في الاسلام تكون ما يعرفه ويحسنه، أما بقية الاعتبارات الأخرى، فإن الدين لا يقيم لها وزنا، كالجاه والحالة الاجتماعية وما اشبه، يقول أمير المؤمنين، عليه السلام: “قيمة كل أمرء ما يحسنه”


ولأن الاسلام يريد للانسان الخير، وابعاده عن مصادر الشر، يرى ـ الاسلام ـ ان الانسان يحتاج الى المعرفة في كل أمر يريد الإقدام عليه، يقول أمير المؤمنين، عليه السلام: يا كميل ما من حركة إلا وأنت محتاج فيها الى معرفة”، فلابد أن يكون هناك أساس لكل حركة يريد ان يخطوها الانسان.
وقيمة الانسان في الاسلام تكون ما يعرفه ويحسنه، أما بقية الاعتبارات الأخرى، فإن الدين لا يقيم لها وزنا، كالجاه والحالة الاجتماعية وما اشبه، يقول أمير المؤمنين، عليه السلام: قيمة كل أمرء ما يحسنه”، وما من شك إن اتقان الشيء بشكل جيد لا يتم إلا بعد العلم والمعرفة، أما من يفقد مقدمات الشيء، فلا ضير أنه لن يحصل على أي نتيجة.
ومع أن الدين شّجع على العلم والمعرفة بشكل عام، إلا أنه بيّن العلوم من حيث أفضيلتها وشرفها بالنسبة للإنسان، وأشار الى العلم الذي يستطيع الإنسان أن يقوّم به سلوكه، وأخلاقه، وعقائده، وجميع أمور حياته المختلفة، وذلك هو العلم الإلهي، الذي يضمن سلامة مسير الإنسان في هذه الحياة مع وجود كثير من التعرجات المختلفة.

  • آفة العلم

ما إن يصل الإنسان الى مرحلة علمية معينة حتى تبدأ آثار تظهر عليه، سواء كان ذلك في الجانب الايجابي، أم الجانب السلبي، ففي الأول ـ وحسب آيات القرآن الكريم ـ فإنه من المفترض أن الإنسان العالِم كلما تقدم به العلم خطوات الى الأمام عليه أن يكون خاشيا لله ـ تعالى ـ يقول عز من قائل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}، فكلما ازداد الانسان علما عليه أن يكون أكثر خشية لله.
أما في الجانب السلبي فقد يصاب العلم حينما يتلبس به من ليس له بأهل، يقول أمير المؤمنين، عليه السلام: ” وَآخَرُ قَدْ تَسَمَّى عَالمِاً وَلَيْسَ بِهِ، فَاقْتَبَسَ جَهَائِلَ مِنْ جُهَّال وَأَضَالِيلَ مِنْ ضُلاَّل، وَنَصَبَ لِلنَّاسِ أَشْرَاكاً مِنْ حبالِ غُرُور، وَقَوْلِ زُور، قَدْ حَمَلَ الْكِتَابَ عَلَى آرَائِهِ، وَعَطَفَ الْحَقَّ عَلى أَهْوَائِهِ، يُؤْمِنُ مِنَ الْعَظَائِمِ، وَيُهَوِّنُ كَبِيرَ الْجَرَائِمِ، يَقُولُ: أَقِفُ عِنْدَ الشُّبُهَاتِ، وَفِيهَا وَقَعَ، وَيَقُولُ: أَعْتَزِلُ الْبِدَعَ، وَبَيْنَهَا اضْطَجَعَ، فَالصُّورَةُ صُورَةُ إِنْسَان، وَالْقَلْبُ قَلْبُ حَيَوَان، لاَ يَعْرِفُ بَابَ الْهُدَى فَيَتَّبِعَهُ، وَلاَ بَابَ الْعَمَى فيَصُدَّ عَنْهُ، فَذلِكَ مَيِّتُ الاْحْيَاءَ”.
في هذا المقطع يبين، أمير المؤمنين، عليه السلام، الجاهل المتلبس بالعلماء، وبهذا فهو يفصح عن حقيقتهم التي أخفيت عن عوام الناس، وفي هذا المقطع اشارات نشير الى بعضها:
1- خداع عوام الناس: فهو يظهر للناس بأنه العالم العارف، حتى إذا ماجاؤوا وقبلوا دعواه، بعد ان خدعهم بمظهره الخارجي، وما يحسنه من نظم بعض الكلمات، اوقعهم في شِراكه الضالة، وساقهم الى طريق غير الرشاد.
2- الجهل وضحالة المعرفة: فأمثال هؤلاء المتلبسون بالعلماء، لا معرفة حقيقية لديهم، أما ما يحملونه فيه مجرد ظنون واحتمالات سرعان ما يُكشف زيفها.
يقول ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح هذا المقطع من الخطبة رقم (50):
“وقوله: “وقد حمل الكتاب على آرائه”، يعنى قد فسر الكتاب وتأوله على مقتضى هواه وقد أوضح ذلك بقوله: “وعطف الحق على أهوائه”. وقوله: “يؤمن الناس من العظائم”، فيه تأكيد لمذهب أصحابنا في الوعيد، وتضعيف لمذهب المرجئة، الذين يؤمنون الناس من عظائم الذنوب، ويمنونهم العفو، مع الاصرار وترك التوبة، وجاء في الخبر المرفوع المشهور: “الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والأحمق من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله”. وقوله: “يقول أقف عند الشبهات”، يعنى أن هذا المدعى للعلم يقول لنفسه وللناس: أنا واقف عند أدنى شبهة تحرجا وتورعا، كما قال صلى الله عليه وآله: دع ما يريبك إلى مالا يريبك.
ثم قال: “وفى الشبهات وقع”، أي بجهله، لان من لا يعلم الشبهة ما هي، كيف يقف عندها، ويتخرج من الورطة فيها، وهو لا يأمن من كونها غير شبهة على الحقيقة!
وقوله: “اعتزل البدع، وبينها اضطجع”، إشارة إلى تضعيف مذاهب العامة والحشوية الذين رفضوا النظر العقلي، وقالوا: نعتزل البدع.
وقوله: “فالصورة صورة إنسان..” وما بعده، فمراد بالحيوان هاهنا الحيوان الأخرس كالحمار والثور، وليس يريد العموم، لان الانسان داخل في الحيوان، وهذا مثل قوله تعالى: {إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً}. (شرح نهج البلاغة – ابن أبي الحديد – ج ٦ – الصفحة ٣٧٤).

⭐ إن من أهم صفات عالم الدين التي يجب ان يتصف بها هو ان يكون حليما، لان موقعه الديني يطلب منه ذلك


ولمعرفة هذا الصنف من العلماء يضع السيد المرجع المدرسي (دام ظله) معايير واقعية تكشف عن حقيقة تلبس هذا النوع بالدين: “وإذا أردنا أن نعرف هذا الفريق من الناس، فما علينا إلا أن نلقي نظرة على صفاتهم التي من أبرزها تحريف الكتاب، وتأويل آياته في غير معانيها الصحيحة، فإذا أنزلت آية في سلطان جائر حرفوها حتى تنطبق على السلطان العادل، أو على الشعوب المطالبة بحقوقها. مثلًا: يحرفون كلمة الفتنة من معناها الحقيقي الذي يعني الظلم إلى معنى معارضة الظلم، وبدلًا من أن يسموا الحكام بالمفتنِين ويصدروا بحقهم أحكام القرآن، تجدهم يؤلون ذلك في المجاهدين الحقيقيين، فيسمونهم بأصحاب الفتنة.
هؤلاء منافقون، يميِّعون قرارات القيادة، ويبررون مواقفهم الجبانة ببعض التبريرات السخيفة التي لا تعود إلى محصل.
{مِنْ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ} أي أنهم بعد الاعتراف بالعصيان يحاولون تبريره، ويطلبون الاستماع لهم، إلا أن أقوالهم لا تستحق السماع.
{وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً} فِي الدِّينِ إن كلامهم واعتذارهم لا ينطلق من منطلق التوبة، بل من منطلق النفاق، والتمييع للقرارات، والمخالفة لها، وبالتالي الطعن في الدين وأصوله”. (من هدى القرآن، ج‏2، ص: 63).

  • العلماء.. ادوارهم وصفاتهم في كلام أمير المؤمنين

“العلم رسالة يجب أن تخدم هدف الإنسان في الحياة، أما إذا استغل العلم في سبيل مصالح خاصة فسوف، يصبح وبالا على المجتمع ووبالا على صاحبه، وسوف يفتضح هذا العالم أمام الناس والتأريخ، فيعتزله الناس ويصبح منبوذا”. (من هدى القرآن، ج‏1، ص: 260).
فدور العلماء وصفاتهم كما بينها أمير المؤمنين، عليه السلام، كالتالي:


1- التواضع لله تعالى:
يقول أمير المؤمنين، عليه السلام: “لاَ يَنْبَغِي لِمَنْ عَرَفَ عَظَمَةَ اللهِ أَنْ يَتَعَظَّمَ، فَإِنَّ رِفْعَةَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ مَا عَظَمَتُهُ أَنْ يَتَوَاضَعُوا لَهُ، وَسَلاَمَةَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ مَا قُدْرَتُهُ أَنْ يَسْتَسْلِمُوا لَهُ”.
إن معرفة عظمة الله ـ تعالى ـ والتواضع في علاقة طردية، فلكما عرف الانسان عظمة الله ـ تعالى ـ تواضع في نفسه، ولذا فبقدر ما يدرك الانسان العالِم عظمة الله، فانه يستشعر في نفسه الصغر والحقارة تجاه عظمة الباري ـ جل وعلا ـ، وهي هي الصفة الممدوحة والتي يصف اللهُ بها العلماء في كتابه المجيد: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}.
يقول الإمام السجاد، عليه السلام: وما العلم بالله والعمل إلا إلفان مؤتلفان، فمن عرف الله خافه، وحثه الخوف على العمل بطاعة الله، وإن أرباب العلم وأتباعهم الذين عرفوا الله فعملوا له ورغبوا إليه، وقد قال الله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}. (الكافي ج ٨ ص ١٦).
وعن الصادق، عليه السلام: “إن من العباد شدة الخوف من الله، ثم تلا هذه الآية: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}، وفي مصباح الشريعة عنه عليه السلام: دليل الخشية التعظيم لله والتمسك بخالص الطاعة، وأوامره، والخوف والحذر، ودليلهما العلم ثم تلا هذه الآية.
ويقول أمير المؤمنين، عليه السلام: “إِنَّ مِنْ حَقِّ مَنْ عَظُمَ جَلاَلُ اللهِ سُبْحَانَهُ فِي نَفْسِهِ، وَجَلَّ مَوْضِعُهُ مِنْ قَلْبِهِ، أَنْ يَصْغُرَ عِنْدَهُ ـ لِعِظَمِ ذلِكَ ـ كُلُّ مَا سِوَاهُ”.


2- الحلم والتحمل:
إن من أهم صفات عالم الدين التي يجب ان يتصف بها هو ان يكون حليما، لان موقعه الديني يطلب منه ذلك، فمسؤوليته الدينية ستجلب له المضايقات، ولذا فإنه بحاجة الى الحلم والتحمل، يقول أمير المؤمنين، عليه السلام: “وَأَمَّا النَّهَارَ فَحُلَمَاءُ عُلَمَاءُ، أَبْرَارٌ أَتْقِيَاءُ …فَمِنْ عَلاَمَةِ أَحَدِهِمْ أَنَّكَ تَرَى لَهُ قُوَّةً فِي دِين، وَحَزْماً فِي لِين، وَإِيمَاناً فِي يَقِين، وَحِرْصاً فِي عِلْم، وَعِلْماً فِي حِلْم..يَمْزُجُ الْحِلْمَ بِالْعِلْمِ، وَالْقَوْلَ بِالْعَمَلِ”.

3- تعليم الناس:
ولأن العلم أمانة يجب أن يؤدى الى الآخرين، فعلى العالِم أن يعلّم الناس أمور دينهم ودنياهم، فمن كتاب لأمير المؤمنين، عليه السلام، الى قثم بن العباس، وهو عامله الى مكة: “وَاجْلِسْ لَهُمُ الْعَصْرَيْنِ، فَأَفْتِ الْمُسْتَفْتِيَ، وَعَلِّمِ الْجَاهِلَ، وَذَاكِرِ الْعَالِمَ”.

المصادر:
1- القرآن الكريم.
2- نهج البلاغة.
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي.
4- كتاب الكافي؛ الشيخ الكليني.
5- تفسير من هدى القرآن؛ المرجع المدرّسي.

عن المؤلف

أبو طالب اليماني

اترك تعليقا