بصائر

ماذا لو ابتعدنا عن فعل الخير؟*

القضايا الفلسفية المعقدة التي يعيشها الانسان لا يعرف فلسفتها بشكل كامل، إلا أن ربنا في القرآن الكريم يوضحها بأساليب مختلفة، فقد تأتي بكل صراحة، وقد يبينها ضمن دروس وعبر من التاريخ؛ مثل قضية الخلق الأول.

من هذه  القضايا؛ لماذا نجد بعض الناس في أسفل السافلين، والبعض الآخر في أعلى عليين، ما هي فلسفة هذا الأمر؟

 وما الحِكمة في ذلك؟

الدواب هي الأخرى حياتها ومماتها متشابهة، فمثلا قطيع من الغنم كله مثل بعض، لكن البشر يختلفون تمام، فهناك من يخرج ويكون شِمرا، وفي المقابل يكون الإمام الحسين، عليه السلام، والفرق بينهما كبير جداً.

📌الانسان الذي يعمل الخير ثم يتركه فإن نعم الله تتغير عنه؛ فتذهب عنه السلامة، والصحة، والرفاه، ولكن حين يعيش هذه النِعم إنما بأعماله الصالحة

الله سبحانه وتعالى خلق الخلق انواع، فالشمس هي الشمس، والقمر هي ذاتها، لكنه ـ تعالى ـ خلق الانسان بين بقية المخلوقات ليكون خلقاً متميزاً يذهب الى الجنة وتأتي رسالة من الله: من الحي الذي لا يموت الى الحي الذي لايموت. وان يصبح الانسان ضيف رب العالمين فتلك نعمة وفوز عظيم، لكن كيف الطريق الى ذلك؟

لابد من طرح التساؤل التالي: هل ان الله خلق أناساً للجنة، واناسا للنار بدون أي عمل؟ هذا الفعل شبه ظلم، وهو ـ تعالى ـ بعيد عن الظلم، وهو الذي يقول عن نفسه: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ}.

الله ـ تعالى ـ يخلق الخلق في بداية الامر سواسية، لكنه ـ جل وعلا ـ يعرّضهم للامتحان، فمن يتكامل يكون في عليين، ومن تسافل يكون مع السافلين.

قصة آدم وحواء قصة جدية لانها كبيرة وترتبط بكل البشر، بالاضافة الى جديتها اننا معرضون الى نفس المصير؛ فإما الى قمة القمم، وإما الى الدرك الاسفل، إما ضيوف الرحمن، وإما وقود للنيران.

هذه الحقيقة يبينها ربنا ضمن قصة واقعية وليست رمزية كما يدعي بعض العلمانيين، وبداية القصة حين خلق الله الإنسان واسجد له الملائكة ثم ادخله الجنة، وبعد دخولهما (آدم وحوراء) الى الجنة امرها أن يأكلا من كل شيء إلا شجرة واحدة منعهما عنهما، لكن الشيطان وسوس لهما، بأن الله معنهما عن تلك الشجرة، حتى لا يخلدان في الجنة، ولهذا نجد أن نزعة البقاء والخلود متجذرة في كل ابن آدم.

وحينما وسوس الشيطان لآدم وحواء واقسم لهما، كانت المشكلة أنهما لم يعودا ويسألان الله؛ هل أن كلام الشيطان صحيح أم لا؟ ولذا علينا إن وقعنا في مشكلة ما أن نسأل الله، ونسأل العلماء، فلا يعمل الفرد بهوى نفسه. ولهذا في كثير من الأحيان حينما يسأل الإنسان يجد حلولا لمشاكله.

الإنسان حينما يولد يأتي نظيفا من الحقد، والحسد، لكن حين يكبر، فإن شهوات الدنيا، وضغوطها، ومشاكلها، تضله عن الطريق، يقول الله ـ تعالى ـ: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ}، فذلك الطفل البريء يتحول بعد أن يكبر الى كتلة من الافكار الخاطئة، والذنوب، ولكن هل هناك خلاص من هذه الحالة؟

الجواب: نعم؛ فالله ـ تعالى ـ وهب للانسان الفطرة السليمة، وبعث له الانبياء، وفي بعض الاحيان حينما يواجه الفرد بعض المشاكل في حياته تتساقط الحُجب عنه، وأحيانا يعطي اللهُ الانسان فرصة ينبهها فيها بطريقة أو بأخرى وحين ينتبه يعود الى حالته الطبيعية التي يريدها الله منه.

ولتقريب المثال؛ الانسان الذي لا يذنب تكون ـ مثلا ـ درجته عشرة، والذي يذنب ويستغفر تكون درجته خمس عشر، لأن ذلك الذي لم يذنب ينتابه الغرور والعُجب، لكن الذي أذنب واستغفر فإن يتوجه الله بعد الاحساس بالذنب، طبعا ليس كل الذنوب، ولا كل الناس، ولكن في العادة يحدث هذا.

إن التوبة تعني أن يضع الانسان رجله على نفسه الأمارة بالسوء؛ فيطرد الشيطان، ويقلع الانانية، صحيح أن هذا الامر صعب، لكن إذا تاب الانسان، واستطاع ان يؤنب نفسه، ثم يستغفر بلسانه، ويغير واقعه فهذا يعني انه وصل الى درجات رفيعة.

  • بصائر الايات

{وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا}، وحسب ما يبدو أنها ليست جنة الآخرة، لان جنة الآخرة من يدخلها لا يخرج منها، {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ}، المحرمات محدودة ومعدودة، بينما الحلال كثير، لكن بعض الناس يترك الحلال الكثير، ويلجأ الى الحرام؛ فمثلا هناك عشرات الفواكه وكل فاكهة يستخرج منها عصيراً، لكن البعض يترك كل تلك الفواكه الحلال ويذهب لشرب الخمر.

 {فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ}، والظلم لانفسهما، {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ}، حتى يخرج الغريزة الداخلية المكنونة في انفسهما والتي تتمثل في حب المُلك، وحب الخلود، {لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا}، أي الاشياء التي لا يعرفانها، ونحن ايضا لا نعرف غرائزنا السيئة إلا إذا تعرضنا للإمتحان، لأن الامتحان يستخرج من الإنسان واقعه، ويسمى الامتحان ابتلاءً لانه يظهر الشيء.

{وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنْ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنْ النَّاصِحِينَ}. الشيطان صوّر الرب ـ سبحانه وتعالى ـ كأنه عدوهما. {فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ} الغرور والكذب على قسمين؛ فهناك من الكذب يرجع على صاحبه، والنوع الآخر من الكذب وهو الذي يدعو الآخرين الى فعل قبيح عن طريق الغرور.

{فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا}، السواءت التي ظهرت يبدو أنها كانت سقوط ملابسهما، وذهاب نِعم الله عنهما، لكن هناك أبعد من هذا؛ فهناك نعم ينعم الله بها على الإنسان بسبب ايمانه وافعاله، فمن يصوم ويصلي، ويعطي صدقة، ويهتم بالفقراء، فإن الله ـ تعالى ـ يجعل هذا الانسان سالما وتسير حياته كما يُراد لها، أما إذا ترك الأعمال الصالحة، فإن نعم الله ترتفع عنه، ولذا نقرأ في دعاء كميل: “اللهم اغفر لي الذنوب التي تغيّر النِعم”.

📌 لا نعرف غرائزنا السيئة إلا إذا تعرضنا للإمتحان، لأن الامتحان يستخرج من الإنسان واقعه

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفُضَيْلِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا خَالِدٍ الْكَابُلِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ زَيْنَ الْعَابِدِينَ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ عليه السلام يَقُولُ‏: “الذُّنُوبُ الَّتِي تُغَيِّرُ النِّعَمَ: الْبَغْيُ عَلَى النَّاسِ وَ الزَّوَالُ عَنِ الْعَادَةِ فِي الْخَيْرِ وَ اصْطِنَاعِ الْمَعْرُوفِ وَ كُفْرَانُ النِّعَمِ وَ تَرْكُ الشُّكْرِ”.

الانسان الذي يعمل الخير ثم يتركه فإن نعم الله تتغير عنه؛ فتذهب عنه السلامة، والصحة، والرفاه، ولكن حين يعيش هذه النِعم إنما بأعماله الصالحة.

{وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا}، الفاظ اللغة العربية في قمة البلاغة، فمثلا الإنسان الذي يريد التكلم مع إنسان قريب عنه تدعى هذه مناجاة، أما إذا كان بعيداً فإن وأراد التكلم معه، فإن ذلك يكون مناداة، فآدام وحواء كانا قريبين على الله، لكن بعد أن أكلا من الشجرة ابتعدا عن الله.

{أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ}، فكان هناك نهي أولي عن الاقتراب من تلك الشجرة، والنهي الآخر كان من الشيطان الذي من المتوقع أن يغريكهما.

{قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا}، في هذه الحالة الوصول الى الضراعة، والإنسان حين يصل الى هذه الحالة فإن الله يرحمه، بعد أن أدرك أنه مذنب، {وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ}، وهنا لا يوجد أي تبرير، أو حجّة وهو الاعتراف بالذنب، وطلب رحمة الله خشية عذابه.


  • مقتبس من محاضرة لسماحة المرجع المدرسي (دام ظله).

عن المؤلف

هيأة التحرير

اترك تعليقا