بصائر

ماذا يحصل إذا توقف الناس عن التبذير؟

في اطار الحديث عن المجتمع الاسلامي، سيكون الحديث عن سور المدينة الاسلامية الفاضلة، فسور هذه المدينة يتكوّن من الحرمات التي هي تعبير آخر عن الحريات، فكل حرمة تؤدي الى حرية، لان الحرمات تعني عدم المساس بكرامة الانسان وحياته، وبالنتيجة فهو يتحرر ويتمتع بإمكانية الحركة، لان الانسان المهدد في عِرضه او دمه او ماله، او اي حرمة أخرى من حرماته، لا يستطيع ان يتحرك بحرية.

الحرمات هي حدود الاحكام الشرعية التي تمثل سور المدينة الاسلامية، وفي داخل المدينة هناك علاقات إيجابية بين أبنائها، سواء على المسار الفطري او الحضاري.

أول حرمة يذكرها القرآن الكريم في سورة الاسراء ما يتصل بالاسرة، لان النسل مقدم زمنيا على الدم، فأولا يجب أن تكون هناك حرمة للنسل حتى يولد الانسان فإذا ولد يحرم دمه، ولكن الملاحظ في القرآن الكريم دائما انه لا يبين محورا أساسيا إلا ويبين مجموعة متكاملة مما يرتبط بهذا المحور.

و القرآن الكريم يتحدث في سورة الاسراء عن منظومة من القيم الأخلاقية، فمثلا تتحدث الآيات عن مسألة التبذير، وهنا تساؤل عريض: ما علاقة التبذير وحرمته ببناء الاسرة؟

الجواب: أن تأمين الاسرة لتوفير مستلزماتها انما يكون ذلك بوقف التبذير، واليوم التبذير في العالَم يقضي على ثلث إمكانات البشر، ولو فرضنا ان التبذير توقف في العالم أن ما ينقص البشر حسب الإحصاءات العالمية من امكانات سوف يُوفَر عبر وقف التبذير.

⭐ نسبة التبذير في العالم وفقا لمنظمة الأغذية والزراعة في الامم المتحدة (فاو): يقدر ان ثلث الطعام المنتج للاستهلاك البشري يُهدر او يفقد كل عام اي ما يعادل مليار وثلاثمئة مليون طن من الغذاء، وتمثل هذه الكمية لإطعام ملياري شخص حول العالم

قال ــ تعالى ــ: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً} {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ}، ومحور الحديث ــ حسب الظاهر ــ في هذه الآية يكون في الآية: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} ويفصّل ربنا الكلام في هذه النقطة، {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً}.

يبدو ــ عادة ــ ان حديث القرآن الكريم عن القضايا الحساسة التي لابد من الإضاءة فيها، وليس كل قضية يتكلم عنها، فمثلا لم يتكلم عن الابوين وهما في قوة نشاطهما وقدرتهما على حماية انفسهما وابنائهم، وإنما حديثه عندما يكبران وهما بحاجة الى العناية والرعاية من أولادهم، {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا} إذا عالج الانسان هذه النقطة سائر الامور الاخرى تعالج بصورة طبيعية، فاحترام الاب وهو في أوج نشاطه وقوته وجاهه ليست امرا صعبا، إنما الصعوبة تكمن حينما يكون الاب كبيرا لا يحرك ساكنا، ويحتاج الى الكثير من العناية والمتابعة.

لذلك قال الفقهاء: كلمة أفٍ فيها دلالة أولوية؛ فحينما ينهى القرآن الكريم عن قولها لأحد الوالدين، فبالأولى ان لا يُضربا، ولا يُعتدى عليهما ولا يتعرضان للسب والشتم، لان الأولوية تدل على ذلك.

{وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} الايفاء بالحاجات المادية لا يكفي، إنما الحاجة المعنوية مهمة، والمجتمع الاسلامي ــ فعلا ــ بُني على احترام الكبار بصورة طبيعية، فعندما يدخل كبير المجلس يقوم له الجميع وحتى لو لم يكن قريبا لهم، لان ذلك أدب القرآن الكريم: {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} وهذه الآية لابد من ربطها بالآية الأخرى في نفس سورة الاسراء؛ {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}، ونقرأ في الدعاء: “اللهم انا نرغب اليك في دولة كريمة”، الكرامة كلمة واحدة، لكنها منظومة من الامور، فكرامة الانسان لا تُحفظ إلا بتوفر الكرامة كاملة؛ كرامته في أكله، وشربه، ونومه.

{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} ويكون خفض الجناح لا من باب الاستعلاء ولا الذل والخضوع وإنما من الرحمة، {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ} وهذه الآية ــ يبدو ــ انها جاءت في هذا السياق كون الانسان ــ عادة ــ لا يفي  بحق الوالدين مهما عمل، ولذلك ربنا  يبين الغفران.

وفي أمثال هذه المواطن في القرآن الكريم يبين غفران الرب ــ تعالى ــ لان البشر مهما عمل يبقى اضعف من أن يؤدي الحقوق الواجبات تجاه الآخرين.

{إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً} يشترط  أن نكون صالحين أولا، ومن الآوابين والتائبين ثانيا.

ثم ربنا يوسع حدود الاهتمام من الابوين الى الاسرة الكبيرة {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً} هنا انتقل الكلام الى التبذير، وإذا رجعنا الى المجتمع نجد التبذير احد الاسباب الرئيسية في حرمان الناس.

 {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً} يعني اصبحت اخلاقهم كأخلاق الشيطان، لان الشيطان يدعو الى ما لا يحمد عقباه، وكلمة كفورا يعادل شكورا، وتعنى الأولى الحرمان من الشكر.

{وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمْ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً} العطاء والاحترام للأسرة واجب، والانسان حينما لا يستطيع أن يعطي للأسرة الكبيرة فلا أقل من الكلمة الطيبة لأنها صدقة.

{وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} يصف أمير المؤمنين، عليه السلام، المتقين لهمام، “وَمَلْبَسُهُمُ الاقْتِصَادُ” وذلك يعني معرفة القصد في الصرف الذي تبينه آية أخرى في سورة الفرقان، والذي يعني الصرف بحسب الحاجة {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} وقواما تعني إقامة الامر.

ماذا لو لم يبذر الناس؟

ثم يبين القرآن الكريم مسألة حساسة قال ــ تعالى ــ: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً}، نسبة التبذير في العالم وفقا لمنظمة الاغذية والزراعة في الامم المتحدة (فاو): يقدر ان ثلث الطعام المنتج للاستهلاك البشري يُهدر او يفقد كل عام اي ما يعادل مليار وثلاثمئة مليون طن من الغذاء، وتمثل هذه الكمية لاطعام ملياري شخص حول العالم، وتمثل هذه النسبة حوالي 25% من اجمالي استهلاك الطاقة في العالم، وبنسبة 10% من اجمالي انبعاث الغازات التي تسبب الاحتباس الحراري.

⭐ لو فرضنا ان التبذير توقف في العالم أن ما ينقص البشر حسب الإحصاءات العالمية من امكانات سوف يُوفَر عبر وقف التبذير

وهنا ننقل إحصاءات التبذير في دولتين هما السعودية والعراق، وفقا لدراسة أعدتها وزارة الزراعة العراقية عام 2023: تبلغ نسبة التبذير في العراق حوالي 20% أي ما يعادل 20 ألف طن من الطعام يوميا، ويبلغ متوسط مساهمة الفرد من الغداء المهدَر حوالي 1 كليو غرام يوميا.

وبالنسبة للتبذير في السعودية؛ كشفت دراسة حديثة أعدتها المؤسسة العامة للحبوب، أن الهدر والفقد الغذائي يكلف المملكة 40.4 مليار ريال سنويا على أساس الإنفاق الاستهلاكي، بينما يبلغ حجم الهدر وفقا للسلع المستهدفة 4.06 مليون طن بنسبة تصل إلى 33.1 في المائة سنويا، إذ تبلغ مساهمة الفرد نحو 184 كيلو غراما من الغذاء المهدر.

و حين نرسم خريطة عملية لبناء مجتمع ودولة اسلامية ربما لا نصل الى كل الابعاد، لكن بمقدار معين نستطيع ان نقف أمام الانهيار، وفيما يرتبط بالسور العام للدولة الاسلامية والمجتمع الاسلامي، هناك أنواع من التبذير لا يُلتفت إليها؛ التبذير في الطاقة، وربما انك وجدت في يوم من الأيام ان مصابيح الانارة في الطرق الخارجية مضاءة في وضح النهار، وفي البيوت عادة لا يوجد اهتمام بهذا الجانب فتجد الاسراف الكبير للطاقة.

وأما استهلاك الماء فهي مشكلة نعاني منها، فهناك اسراف كبير في هذا الجانب، فالذي يتوضأ وخلال الوضوء يسرف بالماء من خلال الحديث مع صاحبه وصنبور الماء مفتوح مع انه الوضوء مقدمة لعبادة، والاسراف حرام {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً}، وكذلك هناك اسراف في الاستحمام، فالكثير يهدر الماء، وطبعا هذه الحالة ليست من الدِين، لان هناك رواية عن النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: الوضوء مد والغسل صاع، وسيأتي أقوام بعدي يستقلون ذلك، فأولئك على خلاف سنتي، والثابت على سنتي معي في حظيرة القدس”.

ومن التبذير العطاء لغير المستحِق؛ ففي أمريكا يُصرف على الكلاب في الطعام فقط حوالي 12 مليار دولار سنويا، وهذا يمثل فقط 1% من اجمالي الانفاق على الحيوانات الأليفة كالقطط وبقية الحيوانات المختلفة، وهناك صرف كبير في أمور أخرى للحيوانات، كالفنادق والحدائق الخاصة بها.

ومع الاسراف الحاصل في مختلف دول العالَم لا يزال هناك من يعيش الحياة الاسلامية في الإنفاق ولو بنسبة معينة، وهو الاقتصاد في المعيشة وهي صفة المتقين التي وصف بها أمير المؤمنين، عليه السلام.

⭐ من التبذير العطاء لغير المستحِق؛ ففي أمريكا يُصرف على الكلاب في الطعام فقط حوالي 12 مليار دولار سنويا

وبإمكاننا أن نبدل الحالة الموجودة ــ حالة الاسراف والتبذير ان نخلق تيارا في المجتمع للعودة الى الإسلام ليس فقط بالكلمات والشعارات، وإنما بالعودة الى الإسلام أخلاقا والآية الكريمة:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} ليس معناه الطريق العام للاستقامة، وإنما مجمل السلوك والأخلاق، فلابد أن يوّفق المؤمن حياته مع حياة أمير المؤمنين، عليه السلام، لانه قدوة وإمام، وكذا مع بقية الأئمة المعصومين، عليهم السلام، هذا هو الصراط المستقيم، فمجرد الموالاة لهم لا تكفي مع أهميتها، ولكن الأهم ان يكمل المؤمن صفاته وشخصيته مع أخلاق الائمة الطاهرين وصفاتهم.

وإذا استطعنا ان نبني مجتمعا قائما على القيم ومنها هذه هذه القيمة {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً}، والاقتصاد في المعيشة، والاهتمام بالأسرة، وليس الهدف ان لا يبقى فقير بيننا، بل نكون أصحاب خير لكل العالَم، والمسلمون سابقا كانوا يرسلون زكاتهم الى البلاد المختلفة، ومن ثم يستميلونهم الى الدِين.


(مقتبس من محاضرة لسماحة المرجع المدرّسي دام ظله).

عن المؤلف

هيأة التحرير

اترك تعليقا