بصائر

كيف نحقق التكامل المجتمعي بالعلم والمال؟*

إذا اتبع المؤمنون بصائر القرآن الكريم بدقة، فإن بصائره تسد عن المجتمع منافذَ الفساد والانحراف، ومن ابرز المنافذ؛ علماء السوء، وأغنياء السوء، لأن العلم والمال ركنان أساسيان في بناء المجتمع الانساني، فإذا انحرف العلماء فإن ذلك السلاح الوحيد الذي تملتكه الجماهير وهو سلاح العلم، سوف يصبح بلا فائدة. ذلك لان علماء السوء سوف يؤيدون الظلمة، إما خشية على انفسهم أو طمعا في المال، وبالتالي لا يمكن للعلماء الربانيين ان ينهضوا بقيادة الامة.

وأما المال إذا انحرف فإن كثيراً من ضعاف النفوس من الناس والطامعين في الثروة الفاحشة، او الحصول على مكاسب مادية، سوف يُفسدِون بفساد المال.

📌 إذا انحرف العلماء فإن ذلك السلاح الوحيد الذي تملتكه الجماهير وهو سلاح العلم، سوف يصبح بلا فائدة

المجتمع الاسلامي يتحدى هذين العاملين الاساسيين للفساد، والقرآن الكريم في هذا السياق يؤكد على هذه الحقيقة، بالإضافة أنه يبيّن بعض الخبايا التي يجب أن نلاحظها فيما يتصل بالمال والعلم.

فيما يرتبط بالعلم فإن الاسلام يربّي عبر تعاليمه القيّمة العلماءَ الربانيين، فالآيات القرآنية والأحاديث الشريفة حول العلم، وتجربة النبي الأعظم، صلى الله عليه وآله، في تربية الجيل الاول، وكذا تجربة الأئمة عليهم السلام، فالآيات والأحاديث غنية بالجانب التربوي للعلماء، وربنا في اكثر من آية حينما يبين دور الانبياء، وبالخصوص النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، فيما يتصل بالرسالة يؤكد على التزكية والتعليم: {يُعلّمهُم ويُزَكَيهم}، وفي آية أخرى: {يُزكيهم ويُعلّمُهم}.

فالتزكية أولا، وتعني: تربية ذلك الانسان المثالي الذي حينما يتلقى نور العلم، وحينما يكون العلم بيده لا يتصرف في العلم بما لا يرضي الرب ـ سبحانه وتعالى ـ، وهناك من العلماء الربانيين استشهدوا للحفاظ على أمانة العلم التي وهبها الله لهم، وحملها إياهم.

ولذا فإن الله ـ تعالى ـ يحذر العلماء من أن مسؤوليتهم الكبرى هي المحافظة على امانة العلم، وذلك عبر أمرين اساسيين اشارت اليهما الآية: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ}.

الأمر الأول: بيان العلم للناس.

الأمر الثاني: عدم كتم العلم، لان كتم العلم بمثابة إعدامه، لان العلم كالماء، فإذا لم يعطِ من عنده الماء لشخص آخر يتضور عطشاً فإن الاخير يموت، وكذا الحال في العلم، فإذا كان هناك من يحتاج الى العلم، أو أن المجتمع كان بحاجة الى بث العلم، ولكن العالِم رفض ذلك، فإن ذلك خيانة للعلم.

الزهري كان من العلماء والمحدثين في زمانه وكان قد قرر الاعتزال وعدم تعليم احداً اي حديث. جاءه رجل وقال له: حدثني حديثا مما أفاء الله عليك.

فقال الزهري: ألم تعلم باني قد اعتزلت ولا اريد ان احدث أحداً شيئا.

قال الرجل: أنا احدّثك، فروى الرجل على الزهري كلامَ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، عليه السلام: ا أخذ الله ميثاقا من أهل الجهل بطلب تبيان العلم حتى أخذ ميثاقا من أهل العلم ببيان العلم للجهال، لأن العلم كان قبل الجهل”. فأطرق الزهري قليلا ثم حدّث الرجل أربعين حديثا.

يقول الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله: “من كتم علما نافعا عنده ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار”.

 {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ}، قد يكون المخاطب هم أهل الكتاب من اليهود او النصرى، وقد يكونوا الطبقة المثقفة في المجتمع، فلابد من بيان العلم للناس، وهنا كلمة عامة، أي لمن يحتاج للعلم من البشر دون تمييز.

{وَلا تَكْتُمُونَهُ}، ولذا لابد من بيان، لانه هناك دواعٍ سياسية أو اجتماعية، قد تدعو العالِم بأن يكتم علمه ولا يفيضه على الآخرين.

{فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ}، فلم يعملوا به بان جعلوه وراء ظهورهم.

{وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاًا}، قد يكون الثمن مالا، فبعض الناس يريد منصبا معينا، كأن يكون قاضي القضاة، او يصبح عالما يتبعه الآخرين، او قد يُغرى بالمال كسمرة بن جندب حينما طلب منه معاوية ان يبتدع حديثا لذم الإمام علي، عليه السلام، فزايده معاوية بخمسمئة ألف درهم.

وبعد أن كتب سمرة الحديث ونشره معاوية بين الناس، قال معاوية: لقد بعت علينا يا سمرة غاليا لقاء بضع كلمات.

قال سمرة: بعتك رخيصا لانني بعتك ديني.

بعض المفسرين قالوا: {ليشتروا به ثمنا قليلا}، هناك من العلماء من يأخذ من الحاكم ثمنا قليلا لقاء اصطناع الاحاديث. ولكن يبدو ان الثمن مهما كان فهو بالنسبة الى ما يبيعه العالِم من دينه، وشرفه، وأمانته التي حملها إياه ربُّ العالمين، أغلى بكثير مما أخذ، فشريح القاضي كم أخذ لِقاء فتوى قتل الإمام الحسين، عليه السلام، فهل كان الثمن يستحق ذلك؟ وكذلك عمر بن سعد تم اغراءه بحكم الري مقابل قتل الإمام الحسين، عليه السلام، لكنه لم يحصل عليه، كما أخبره الإمام انه لن يأكل من قمح الري.

المال الذي يؤخذ في مقابل أخذ العلم، وميثاقه، وأمانته، لا يسوى شيئا، وإن كان في نظر الناس أنه يستحق أخذه.

📌 إن العلم والمال ركنان أساسيان في بناء المجتمع الانساني، بشكل عام والإسلامي على وجه الخصوص، ولهذا لابد أن نوجد التكاملية الحقيقية لهذين الركنين

{فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ}، بعض الاموال ذات بركة لانها من حلال، وبعضها حرام لا بركة فيها، كأن يصرف في أمور لا فائدة فيها، أو يصبح طعمة السراق والخونة، والناس الذي يأكون المال الحرام لا يهنأون به.

{لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنْ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، بعض الناس بخلاء، وهذا البخيل تكون فيه صفتان؛ الأولى: أنه إذا اعطى شيئا من المال فإنه يستكثره ويفرحون بذلك، الثانية: أن البخيل يدفع المال القليل لكنه يريد أخذ الكثير، وهذا هو سبب من فساد المال، ودور المفسد للمال في المجتمع، فهو يفسد نفسه ويفسد المجتمع.

{ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، فمن يتصور أنه حين يعطي الاموال للناس فإنه يعطيها لله، وهذا تصور خاطئ، فالله ـ جل شأنه ـ ليس  بحاجة الأموال لانه مالك السماوات والارض.

إن العلم والمال ركنان أساسيان في بناء المجتمع الانساني، بشكل عام والإسلامي على وجه الخصوص، ولهذا لابد أن نوجد التكاملية الحقيقية لهذين الركنين حتى نتمكن من سد منافذ الانحراف التي تحدث بسبب التصرف السيء للعلم والمال.


  • مقتبس من محاضرة لسماحة المرجع المدرسي(دام ظله).

عن المؤلف

هيأة التحرير

اترك تعليقا