ثقافة رسالية

نهج البلاغة والحياة (7) ضمان المستقبل بالإعتبار*

يقول أمير المؤمنين، عليه السلام: “من تبصر تبين له الحكمة ومن تبينت له الحكمة عرف العِبرة ومن عرف العِبرة فكأنما كان في الاولين”.

الانسان ليس اقوى كائن، وليس واجمل كائن، ولا اقدر كائن، فليس الانسان أقوى من الفيل، والطاووس أجمل من كثير من الناس، والزرافة أطول من أي طويل، وإذا كانت للإنسان عينان، فإن للذبابة ما بين خمسمائة الى ألف عين، وإذا كان الانسان قادرا أن يطير عبر وسيلة الطيران (الطائرة)، وأن يصنع صاروخا سريعا في السير، فإن الذبابة في الطيران تكون أسرع بمئة وخمسين مرة من حجمها الطبيعي، مما يعني أن سرعتها في الطيران اكثر من أي وسيلة صنعها الانسان حتى الآن.

وإذا كان الانسان قادراً على ان ينجب في كل عام في أكثر التقادير أربعة، وفي الحالات الطبيعية واحداً، فإن زوجين من الذباب قادران على أن ينجبا في عام واحد ـ  لو كانت الظروف طبيعية بالنسبة لهما ـ بمقدار ما يغطي الكرة الأرضية خمسة عشر مترا.

وإذا كان الانسان يشم الرائحة ولا يستطيع أن يحدد مسار الريح بشكل سريع، فإن الذبابة حين تدخل الغرفة تطير بشكل مستقيم الى مصدر الريح، وإذا كان الانسان بعد اختراعاته واكتشافاته قد صنع الرادار، فإن خفافيش الليل تستخدم الرادار منذ زمن طويل.

فما دام الانسان كذلك، فبماذا رَكِب الطبيعة؟ وبماذا سخّر كل ما في هذه الارض؛ من نبات وحيوان واشياء اخرى تحت إرادته؟

إذا كان الكتكوت الصغير حين يفقس من البيضة فإنه يبحث عن الحَب، وبإمكانه تمييز جيدها من رديئها، وطفل الانسان يحتاج سنوات حتى يعرف ماذا يفيده وما يضره، فلماذا نرى الانسان يسخر الحيوانات، ويصنع حديقة لها، فنرى أقوى حيوان يوضع في داخل قفص ويتلاعب معه الاطفال، بأي شيء سخّر الانسان ذلك؟

⭐ الانسان ليس فرقه عن الحيوان أنه يرى ويسمع، والحيوان ليس لديه ذلك، إنما الانسان يعتبر، والاعتبار هو نتيجة التفكير، ثم التعقل، وهو قادر على الاستنتاج

الحيوان يرى ويسمع لكنه لا يعتبر، لو ان قصابا جاء الى قطيع من الغنم وبدأ بذبح واحدة منها، لما فكر البقية من الهروب من تحت يديه.

إن أجدادانا كانوا يصيدون الفأر بنفس الطريقة التي نصيده بها اليوم، فلم نرَ أن الفأر اعتبر بما حدث لآبائه واجداده من ذي قبل، ووضع خطة مضادة لذلك، ولكن هذا الانسان يأتي الى مرض قاتل، راح ضحيته الكثيرين، فيتعبر بما حدث لهم، ويحاول أن يصنع المواد المضادة له.

  • ماذا لو امتلك الانسان البصيرة؟

الانسان ليس فرقه عن الحيوان أنه يرى ويسمع، والحيوان ليس لديه ذلك، إنما الانسان يعتبر، والاعتبار هو نتيجة التفكير، ثم التعقل، وهو قادر على الاستنتاج، فإذا وقعت حادثة فإنه يحاول معرفة خلفياتها، ولكن وحدهم ذوو البصائر هم القادرون على استخراج  العِبر من الاحداث، ذلك لان من لا يمتلك بصيرة، لا فرق بينه وبين الحيوان، يقول  الله ـ تعالى ـ: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً}.

ذلك الذي يلدخ من جحر مليون مرتين لا يمتلك البصيرة، وإلا فإن الله زود الانسان ببصيرة لو استعملها، لاستطاع أن يهرب من كثير من النتائج المؤسفة في حياته، فلا حدث بدون خلفية، لأن الاحداث ليست نباتات بلا جذور، وما من ظاهرة إلا وفيها عِبرتها وقانونها.

فإذا حدثت حادثة فإن باستطاعة الانسان ان يتستخرج منها قانونها الخاص، ومن ثم يستطيع أن يتنبأ بمثيلاتها، فإذا كانت الحادثة سيئة فإن بإمكانه أن يهرب من نتائجها؛ فلو حدث زلزال في منطقة ما، فإن الانسان بما لديه من فكر وعقل زوده الله به بمقدوره منع نتائج الزلزال.

ألا نجد على الكرة الارضية اليوم مناطق مختلفة؛ فهناك منطقة يعيش فيها انسان متخلف، لم يستخرج ما في اعماقه من قدرات وطاقات، فيحدث الزلزال دوريا في تلك المنطقة، ويدمر الكثير من البيوت، ويقتل مجموعة من الاحياء، وفي منطقة أخرى يحدث فيها الزلزال دوريا إلا أن الانسان لم يبقَ متخلفا؛ فإذا به قد شيد البنايات، وعمّر المصانع، بل وصنع مفاعل ذريّة في تلك المنطقة ـ وهي أخطر الاشياء ـ فلو أن الذرة المنفلقة خرجت عن مفاعلها لدمرت ما حولها، وبهذا يخففون من نتائج الزلزال المدمّرة.

  • من الذي يستفيد من العِبر؟

ذوو البصائر وحدهم من يعتبرون في هذه الحياة، أما الذي عطّل بصيرته، وفكره، فإن الحوادث تتراكم عليه من دون أن يفعل شيئا، ولذا يقول الله ـ تعالى ـ: { فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ}، ويقول ـ تعالى ـ: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ}. {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ}.

الذي يملك من فطرته ووجدانه حكمة يقيس بها الامور، يستطيع ان يستنبط العِبرة من كل حادثة، ففي كل شيء عِبرة، أي أن كل حدث له خلفية، ولكل ظاهرة قانونها؛ في تقلب الليل والنهار عِبرة، فكمـأ أن للإنسان حياة فله موت، وكما أن له يقظة فله نوم، والذي يُميت الانسان في النوم يميته في الحياة، والذي يوقظه بعد نومه، فهو الذي يبعثه بعد الممات.

ولأن المستقبل بالنسبة للإنسان غيب، فإن القرآن الكريم يستدل عليه بما يحدث على الانسان في حياته، { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ}، اي علامات، وعِبر، ولكن العِبرة تحتاج الى عين بصيرة كي تراها، الطفل الصغير، والشيخ الكبير كلاهما ينظران الى ظاهرة واحدة، ولكن الكبير يعتبر، والطفل  لا يعتبر.

هنالك من يرى ظاهر الامور والاشياء، ولكن هناك من يعبر من الظواهر الى خلفياتها، يقول أمير المؤمنين، عليه السلام: “ما اكثر العبر وأقل المعتبر”، فالموت حادثة بعيدة عن ذهن الانسان، لكن هناك في كل يوم جنازة وناعية.

إنّ قيمة الانسان وتميزه عن بقية الموجودات انما بعقله وبفكره، ولهذا استطاع ان يسخّر الطبيعة من حوله، وبما أن في كل شيء عِبرة، فإن قيمة كل إنسان بما يملك من وعي، ورؤية، وأفضل الوعي ما يتنبأ بالنتائج، فمن سقوط فرد، او شعب، او أمة، يستطيع الانسان ان يستخرج العِبرة، وبالتالي تفادي العوامل التي تؤدي الى السقوط، وكذا في جانب النجاح، فإن من يريده، فإن عليه أن ينظر في حياة الناجحين ليكن منهم.

يقول الامام علي، عليه السلام :”الاعتبار يورث العصمة”، فيصبح الانسان معصوما بنتائج ما يعتبر منه، ومن الجيد أن يكون الفرد ملتقطا للعِبر والحِكم فيعتبر بها.

  • كيف يكون الاعتبار؟

منبع الاعتبار التأمل، يقول الامام علي، عليه السلام : “ومن تأمل اعتبر ومن اعتبر حذر”، فالمؤمن ليس هو ذلك الذي يُمارس العبادات من دون ان يستخرج عقله، و أن يستعمل فكره، ولذا كانت اكبر عبادة أبي ذر التفكّر، فإذا رأينا أن إنسانا يلدغ من جحر مرتين، فإن علينا أن نشكَّ في إيمانه.

قيل لموشيه دايان،  ـ وهو عسكري وسياسي إسرائيلي ـ كيف طبقتم على العرب عام 1967 خطة قديمة مكتوبة في الكتب؟

قال: من حسن الصدف أن العرب لا يقرأون التاريخ!

⭐ ذوو البصائر وحدهم من يعتبرون في هذه الحياة، أما الذي عطّل بصيرته، وفكره، فإن الحوادث تتراكم عليه من دون أن يفعل شيئا

ان الانسان لا يملك فرصتين، ولا حياتين، ولا عمرين، ولذا يجب ان يرجع الى تاريخه، فهل انفقه على صواب، ام على خطأ، فالعمر الذي ذهب ولم يكن نتيجة منه، فإن صاحبه خسران، لان صراف رأس مال، ولم يحصل على نتيجة، الخسارة ان يصرف الانسان مال ولا يعود شيئا الى مكان..

عن الصادق، عن آبائه، عليهم السلام، قال: قال علي، عليه السلام: مامن يوم يمر على ابن آدم إلا قال له ذلك اليوم: يا ابن آدم أنا يوم جديد، وأنا عليك شهيد، فقل في خيرا واعمل في خيرا أشهد لك به يوم القيامة فإنك لن تراني بعده أبدا”. ويقول أمير المؤمنين، عليه السلام: “لو اعتبرت بما أضعت من ماضي عمرك لحفظت ما بقي”.

فأفضا مرآة تكشف للإنسان المستقبل هي مرآة الماضي الذي له تأثير في الحاضر، يقول رسول الله، صلى الله عليه وآله: “أغفل الناس من لم يتعظ بتغير الدنيا من حال الى حال”.

  • فلسلفة الاعتبار

قيمة التاريخ في عِبره، فحين نستمع الى القرآن الكريم، وهو يتحدث عن بني اسرائيل، والنصارى، واتباع عيسى بن مريم، وعن الفراعنة، وغيرهم، كل ذلك ليس لأن القرآن الكريم كتاب قصة، ولكنه يتحدث عن العِبر في كل قصة أوردها. فالفراعنة ـ مثلا ـ ماذا فعلوا والى اين انتهوا!

حين يذهب الانسان الى الطبيب بسبب مرض ما، فإن يسأل عن ماضي المريض، فإذا كان الالم ـ مثلا ـ في الرأس، فإن الطبيب يسأل: هل حدث وان سقطت من الأعلى الاسفل في صغرك؟ وكذا بقية الاطباء يسألون عن ماضي الانسان المريض.

ولابد من الاشارة؛ الى ان رغبات الانسان وشهواته ثابتة، من قدم التاريخ والى الآن، فشهوة الجنس ـ مثلا ـ لم تتغير، وإنما تغيرت الوسائل، ففيما قبل كان الانسان يعيش في الكهوف، أما الآن في غرفة نوم لها ديكور خاص، وكذلك حاجته الى الطعام لم تتغير، وكذا في بقية حاجات الانسان الاساسية.

فلا يظن أحد أن الشيطان خدع فرعون، وقارون، وعمر بن سعد، وهو ـ الشيطان ـ عاجز عن خداعه، فالشيطان له تجربة مع مئة وأربع وعشرين ألف نبي، وكذلك مع اوصيائهم واتباعهم، وقد نجح في خداع البعض من اتباع الانبياء، فهذا هو الشيطان نفسه، والانسان الذي يعيش في القرن الواحد والعشرين، هو نفسه الذي كان يعيش قبل آلاف السنين.

إنّ تحصين الانسان نفسه بالاعتبار سيكون في مأمن من الشيطان، وإلا ستكون عاقبته مثل اولئك الذي اغواهم الشيطان قبل آلاف السنين، لان حوادث التاريخ تعود من جديد، كما يقال: “التاريخ يعيد نفسه”، فالله سنّة ثابتة في الانسان، وفي كل المخلوقات.


  • مقتبس من محاضرة لآية الله السيد هادي المدرسي.

عن المؤلف

هيأة التحرير

اترك تعليقا