ثقافة رسالية

هل نحوّل الازمات والمشاكل الى فرصة للتغيير؟

يتصور البعض أن الازمة والمشكلة في الحياة لها مفهوم سلبي على طول الخط، وهي مدعاة للمحن والآلام والمعاناة، فما عليه إلا ان يتهرب من أي نوع من انواع المشاكل، بل ويفكر دائماً في الابتعاد عن مواطن الاشكال الفكري او العقدي، وايضاً مواطن الازمة الاقتصادية او الاجتماعية، الى جانب الازمات السياسية ليضمن الحياة الهانئة والسعيدة.

بيد ان هذا النوع من التفكير يجانب الحكمة والغاية من خلق الانسان وهي التكامل لبلوغ مرحلة العبودية الحقيقية؛ {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}، فكيف تكون هذه العبادة، هل كما يشاء الانسان أم كما يشاء الخالق –جلّ وعلا-؟

إنها من خلال مسيرة طويلة يطويها الانسان طيلة سني حياته يتعرض لفصول من الابتلاءات والمحن ليثبت فيها جدارته وإنسانيته كما اراد له الله ـ تعالى-، فكلما كان استعداد الانسان عالياً لخوض الابتلاءات، كان احتمال نجاحه اكثر، كونه يدخل وهو مطمئن النفس، مرتاح البال، بالضبط؛ كما الطالب المتوجه الى قاعة الامتحان، فهو يعرف من أين؟

البعض ممـن يهرب مـن عيوب نفسه ويخشى ظهورها على حقيقتها، نجده يتهرّب مـن مواقع التمحيص كالذي يكره المرآة ويودّ تحطيمها لأنها أظهرت له عيباً

 والى أين؟

 وما هي الحكمة من وجوده في الحياة؟

 وما الذي يجب فعله؟

 وما الذي يجب تجنبه والابتعاد عنه؟

اكتشاف مواطن الخلل

بما أن الابتلاء في هذه الحياة، مثل قاعة الامتحان، فإن الامر ينطوي على احتمال النجاح، واحتمال الفشل والرسوب، والفشل هنا ليس بمعنى الهزيمة والخسران، بقدر ما تكون فرصة لاكتشاف مواطن الخلل والضعف التي تسببت في الفشل، وإلا فان أي انسان ينزع الى التفوق والنجاح، وإن سُئل عن مدى خبرته في عمل ما، فانه لا يتردّد في الجواب الايجابي، وإن كان جاهلاً، وهذه من طباع الإنسان المتمثلة في عدم إقراره بالجهل، ولكنّ سرعان ما يفتضح أمره عند الاختبار، وحينئذ سيفهم حقيقة نفسه فيضطرّ حينئذ الى إصلاحها.

وللأسف فانّ البعض ممـن يهرب مـن عيوب نفسه ويخشى ظهورها على حقيقتها، نجده يتهرّب مـن مواقع التمحيص كالذي يكره المرآة ويودّ تحطيمها لأنها أظهرت له عيباً في وجهه لم يكن قد التفت إليه لولاها، ولكي نبرهن على واقعيّة إيماننا، علينا أن نعشق المرآة ونلجأ إليها دائماً كي نطّلع على عيوب أنفسنا ونعمد الى إصلاحها؛ ومرآتنا تتمثل في إخواننا المؤمـنين ذوي الألباب، فبنصحهم وصلاحهم تصلح مسيرتنا وتنجلي البقع السوداء مـن قلوبنا.

 فقد تحسّ أن في قلبك نقاطاً سوداء يجعلها الناس فيك، وربّما يتوفّاك الموت دون أن يعلم أحد بها، ولكن عليك أن لا تنسى أن الإنسان لا يحاكم لوحده يوم القيامة، بل إنّ الملايين قد تُحاكم كمجموعة واحدة في يوم الحشر الرهيب وهناك تفتضح النفوس وتنكشف حجب القلوب، ولذلك جاء في الدعاء بشأن هذا الموقف الرهيب: “اللهم إنّي مؤمـن بجميع أنبيائك ورسلك صلواتك عليهم فلا تقفني بعد معرفتهم موقفاً تفضحني فيه على رؤوس الأشهاد، بل قفني معهم وتوفّني على التصديق بهم”(1).

مـن هنا كان الأجدر بنا أن نظهر حقيقة ما في قلوبنا وأنفسنا قبل أن يفتضح أمرنا في يوم الخزي الأكبر، فلنعرض حقيقة أنفسنا ولنبدأ باصلاحها بعد التوكّل على الله سبحانه، ولندعُ لاصلاح أنفسنا في كلّ ساعة وفي كل حال نحن فيه.

واصلاح النفس يكون بالالتزام بركنين مـن الأخلاق؛ الاجتناب والتمسك؛ إجتناب الأخلاق السلبية السيئة، والتمسّك بالأخلاق الايجابية الفاضلة.

اختبار صلابة الإيمان

ومـن كلّ ذلك نستنتج أن غاية الحياة والوجود هي الابتلاء ومعرفة حقيقة الإيمان به، ومدى تحمّله، والصبر عليه، ومـن ثمّ الاستقامة والثبات في السير نحو الهدف التكامليّ للحياة، فحين الابتلاء يعرف الإنسان المؤمـن نفسه ويعرف قيمة أخيه المؤمـن، وقد قيل في الحِكم: “عند الشدائد تعرف الاخوان”.

 فالبعض قد تجد مـنه الطيب والنبل في لسانه، فيعدك بالاخلاص، وتشمّ مـن كلامه معك روح التفاني والتضحية، ولكن حين الشدّة والصعاب لا تلقى مـنه أدنى شيء مما لقيته في لسانه حين الرخاء واليسر، و ربما تلمس مـنه الكذب في ظروف أخرى غير الشدّة، وذلك عندما يرتقي مـنصباً، أو يصبح ذا مال وفير بعد فقر أو غير ذلك مما يظهر معدن المرء على حقيقته.

وهكذا؛ فبالتمحيص والابتلاء والفتنة يُعرف المؤمـنون الصادقون، والرجال الصالحون المخلصون، والمجاهدون حقّاً في سبيل الله، وإلاّ فإنّ الدين والايمان في السرّاء ليسا إلاّ لعقاً على الألسن كما قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}. (العنكبوت/2-3).

لنستثمر ما نعيشه من مشاكل وأزمات لتربية أنفسنا وتزكيتها وتخريج جيل من المؤمنين الحقيقيين ممن لا تغريهم الأموال والمصالح

والمنافقون أشدّ خطراً على الأمة من الكفار والمشركين، وقد جاء التأكيد في القرآن الكريم مراراً على خطورة وجودهم وحركتهم الخبيثة داخل المجتمع الاسلامي، ولقد ابتلي المسلمون بداء النفاق منذ الأيام الأولى للدعوة الاسلامية وحتّى يومنا هذا، وقد انكشف أمر البعض منهم في أيام رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فتصدّى لهم المسلمون، و أوقفوهم عند حدّهم، وربّما نالوا جزاء نفاقهم، والبعض الآخر كشف عنهم النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، ولكنه لم يستطع القيام بعمل من شأنه أن يردهم بسبب طبيعة الظروف، فظهر دورهم التخريبي في أيام خلافة الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.

فالبلاء ـ إذن ـ له مردودات إيجابية على صياغة روح المؤمنين، وجلي نفوسهم وإظهار معدنهم الحقيقي، وإضافة الى ذلك فانه يعود عليهم بالنفع المتمثل في افتضاح النفاق والمنافقين في المواقف الصعبة، وهذه هي طبيعة المنافقين والذين في قلوبهم مرض؛ أي الذين تكدّرت قلوبهم واسودّت بالحسد، فغدت مريضة تعيش الحسد والحق والبغضاء، فهم يحرصون على الدنيا وملاذّها ويلهثون وراء سرابها تاركين الجهاد في سبيل الله، ويثبّطون المؤمنين وينالون من عزائمهم ولذلك ان حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة، وبابٌ من أبواب النفاق.

ومن هنا نرى أن المؤمنين الصادقين يحذرون الانغماس في ملذّات هذه الدنيا، فلا ينالون منها إلاّ ما قُدّر لهم من حلالها الطيب، ولا بأس في هذا المجال أن نزور الآثار وما فيها من الديار والقصور الفخمة والابراج والقلاع التي تركت في كلّ مكان من هذه الأرض ففي ذلك عبرة لأولي الألباب، والإنسان المؤمن ينظر الى هذه الآثار والأطلال فيتدبّر مع نفسه ويحدّثها ويسائلها: أين أصبح أصحابها؟، أليسوا قد نُقلوا من قصورهم الى قبورهم وغدت عظامهم بعد ذلك رميماً؟ فما الذي أصطحبوه الى قبورهم هذه، فَلِمَ ـ إذن ـ كلّ هذا التخاصم والنزاع والتكالب على ما هو صائر الى الفناء؟!

كيف نتعامل مع المشاكل؟

إنّ التعامل هنا يكون بأن نستغلّ مشاكلنا لتربية نفوسنا وتقوية ذواتنا وشخصياتنا الإيمانية، وهذه المشاكل والصعاب التي تَحلُّ على المؤمنين لا تزيدهم إلاّ إيماناً وثباتاً واستقامة على  الطريق؛ أمّا المنافقون فانّ أمرهم سينكشف شيئا فشيئا فيسقطون كما سقط أسلافهم من ذوي القلوب المريضة، والمؤمن الحقيقي يغدو في خضم هذه الفتن والبلايا مؤمناً إستثنائياً على غاية من التفوّق والتميّز.

فلنستثمر ما نعيشه من مشاكل وأزمات لتربية أنفسنا وتزكيتها وتخريج جيل من المؤمنين الحقيقيين ممن لا تغريهم الأموال والمصالح.

و لنُخلص النيّة، ولنتحمّل المسؤولية الملقاة على عاتقنا، ولنبدأ بإصلاح أنفسنا، عسى الله أن يرحمنا ويكتب أسماءنا في قائمة أولئك الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وطهّروا قلوبهم من النفاق وكانوا في مستوى الابتلاء والتمحيص والفتنة فخرجوا من الدنيا بوجوه بيضاء.


الهامش:

1ـ بحار الأنوار، ج97، ص380.

عن المؤلف

زكي الناصر

اترك تعليقا