حدیث الناس

من يعلّق الجرس؟!

انه مثل قديم كناية عن التنصّل عن المسؤولية في اللحظة الحاسمة.

يُقال في الحكاية المعبِرة أن في مكان ما كانت ثمة جماعة من الفئران تعيش بسلام، وذات يوم داهمها هرٌ مسعور دمر أمنها واستقرارها، وفي كل يوم كانوا يفقدون فأراً لأنه يتحرك دون أن يشعروا به، فينقضّ على فريسته على حين غفلة وبشكل فجائي، فعقدوا مؤتمراً عاماً شارك فيه الجميع ليتشاوروا حول كيفية التخلص من هذا الهرّ اللعين، فكل واحد أدلى برأيه، فازدحمت الآراء وتقاطعت الافكار دون الخروج برأي صائب ومفيد يضمن حياتهم في قادم الايام، إلا رأي واحد أنصت له الجميع لأنه كان رائعاً، فشرح لهم صاحب الفكرة بأن نأتي بجرس ونعلقه على رقبة الهر في وقت نومه، وعندما ينهض يجد الجرس معلقاً على رقبته، وكلما تحرك سيرنّ الجرس وننتبه لوجوده، وينتهي كل شيء.

فرح جميع الفئران لهذه الفكرة البارعة، ولكن! سكتوا لحظة! ثم سألوا: ومن يعلّق الجرس؟! بمعنى أن هذه الفكرة تكون عملية عندما يبادر أحد الفئران ويضحي بنفسه لتعليق الجرس قبل ان يجعله الهر لقمة سائغة لحظة انتباهه الى الجرس وهو يتدلّى في عنقه.

الاشكالية القائمة في العلاقة بين الأهالي وأصحاب المولدات الأهلية في العراق، هي ضمن سلسلة الاشكالات في علاقة المجتمع بمؤسسات الدولة خلال السنوات الماضية، وعدم حل هذه الاشكاليات، وحتى حللتها –على الاقل- أسفر عن مزيد من التعقيد، ثم استمرار الخطأ، ومن ثمّ دفع الناس ثمن هذا الخطأ المستمر.

وجود كيانات مقدسة وجميلة في مجتمعنا مثل؛ الهيئات والحسينيات والجوامع في أحياء سكنية بالعراق، تمثل فرصة متاحة للاجتماع وتبادل الافكار والاقتراحات لمناقشة ما يعانيه الناس من مشاكل

الادارات المحلية في جميع محافظات العراق تصدر كتب رسمية مطلع كل شهر توجهه الى اصحاب المولدات تحدد فيه سعر الأمبير وساعات التشغيل بالتناوب مع التيار الكهربائي الوطني، وحسب ظروف الطقس، بين الصيف اللاهب، ثم الخريف المعتدل، ثم الشتاء القارص، وبعده الربيع، ولكن؛ الكتب الرسمية وساعات التشغيل، بل ومقادير الوقود التي تضخها وزارة النفط لهذه المولدات بسعر مدعوم في وادٍ، والتشغيل الحقيقي وطريقة تعامل بعض اصحاب المولدات –ولا نقول جميعهم- في وادٍ آخر.

وفي جزئية اخرى؛ اقترح الناس على اصحاب المولدات التشغيل لمدة اربع وعشرين ساعة، أي تزويد الأهالي بالكهرباء حالما انقطع التيار الوطني في أي ساعة كانت، وقد اصطلح عليه عراقياً “الخط الذهبي”، وقد تسالم اصحاب المولدات مع الأهالي على هذه الفكرة منذ سنوات، وعلى مبالغ معينة اضافة غير تلك المعلنة بساعات محدودة من قبل الدولة، والذي حصل مؤخراً أن بعض اصحاب المولدات استساغوا فكرة “الذهبي” و راحوا يتشبثون بها، ويرفضون التحول الى التشغيل العادي معلنين أنهم لن يعودوا بهم ثانية الى الذهبي، في تهديد مبطن، بأنهم لن يحصلوا على التشغيل الذهبي خلال فترة الصيف التي كانت اساس الفكرة. وفي محافظة مثل كربلاء المقدسة، استمر التيار الكهربائي الوطني طيلة الاشهر الثلاثة الماضية دون انقطاع إلا من ساعات قليلة، والناس يذهبون الى المولدة لتسديد الأجور عن التشغيل الذهبي! وفي احدى الاشهر اعلنت المحافظة أن سعر الامبير الذهبي تسعة آلاف، والعادي خمسة آلاف، فأصر البعض على استيفاء مبلغ التسع آلاف من الناس المجبرين على التسديد لتحاشي الجدال والنقاش والمشاكل كما يدعي البعض.

رأي المجتمع سلاح رادع

كما اسلفنا، فان مشكلتنا ليست في أجور المولدات، ولا في ممارسات بعض اصحاب المولدات في التشغيل، وعدم وجود محرك احتياط حال العطل وغير ذلك، فهي سلسلة مشكلات يتخبط فيها ابناء المجتمع في مسألة النظافة وجمع النفايات، والبيئة وعدم تلويثها بالدخان، والمرور في الشارع والارصفة، والأمن، واحترام حقوق الآخرين. كل هذا يتطلب وجود تحرك مجتمعي جادّ وفاعل لمعالجة هذه المشاكل ثم حلّها نهائياً، إنما المشكلة في القبول بالمشكلة! وهذا لم يحصل لولا تردد البعض في تحمّل مسؤولية الاشتراك في الحل، علماً أن المجتمع العراقي معروف بين المجتمعات العربية في التزامه بالقيم والآداب والصفات الحميدة، مثل الشجاعة والكرم والنخوة، وهي صفات جماعية، بيد أن حالات خاصة تطرأ عليه تجعله يتخذ القرار الخطأ بفعل تراكمات وعوامل فشل من صنع الساسة واطراف أخرى.

وبقدر تحرك الافراد نحو “الاجتماع” والانتظام في جماعات معينة، والتحول الى الحياة الاجتماعية بدل الفردية، يكون من السهل معالجة أي مشكلة مهما كانت، وهذا يفسر مخاوف أي جهة تقف قبالة المجتمع، بدءاً من رئيس الدولة، مروراً بالوزراء، ثم المدراء، وحتى الموظفين في الدوائر، وحتى  التجار في السوق، وصولاً الى صاحب مولدة الكهرباء الأهلية. كل هؤلاء يشعرون بالأمان –بعضهم طبعاً- على ما يقومون به من فساد وتلاعب بالمال العام، و بحقوق الناس، عندما يجدون الناس عبارة عن افراد متفرقين يبحثون عن مصالحهم الخاصة، فيمكن اسكات هذا بتعيين، وذاك بسيارة، والآخر بامتياز وظيفي، او واسطة لتمرير صفقات او ادخال بضائع وغير ذلك، فتضيع المطالب العامة، ويبقى الانسان الفقير دون المراتب الاجتماعية العليا هو من يدفع ثمن السرقات الكبرى والفساد الكبير.

ومن اجل ذلك نرى تأكيد القرآن الكريم على دور الجماعة في تغيير الانحراف الاجتماعي والسياسي، وتحكيم شرع الله –تعالى- في الارض، فقضية من هذا الحجم لن تكون بمقدور شخص او اثنين او افراد متفرقين، إنما من خلال “الاعتصام بحبل الله”، وأن يكون الاجتماع على قاعدة القيم السماوية ومنها؛ التقوى، كما جاءت التأكيدات المكررة على مسؤولية جموع الناس عن أي انحراف يحصل، وأن العقاب والجزاء الإلهي يعمّ الجميع، المنحرف منهم،والساكت على الانحراف.

وأبرز مثال على خشية الاقوياء من رأي المجتمع ما جاء في سورة هود عندما قال المنكرون لنبوة نبي الله نوح، ورسالته السماوية: {مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِي الرَّأْيِ}، محاولين التقليل من شأن شريحة المؤمنين في ذلك المجتمع، بيد أن أولئك المؤمنون القلّة هم الذين شكلوا المليارات من البشر منذ ذلك التاريخ، وصنعوا الأمم والاجيال، ولهم الفضل في استمرار الحياة والنسل البشري، فيما الذين أصروا على الكفر والاستعلاء والطغيان راحوا طيّ النسيان.

الحل في الخلايا الحضارية

علماء الاجتماع عندما يتحدثون عن لفظة “المجتمع” فانهم يوضحون بانها عبارة عن شخصية غير حقيقية إلا أن تحمل صفات معينة، مثل؛ الضمير، والحياة، والرأي، بينما الجماعات من الناس، فانه يتشكل بالعادة من اشخاص يجتمعون في اماكن بسبب اختصاصاتهم، او توجهاتهم الفكرية والثقافية، فتم ابتكار الجمعيات والاتحادات، ثم صار لدينا المساجد والحسينيات والهيئات التي من شأنها ان تتحول الى مراكز تجمع لتشكيل الجماعة المؤثرة التي تشترك في هموم الخدمات، او الامن، او التعليم وغيرها، من الملفات التي يشترك فيها الغني والفقير، الأميّ والمتعلم، الرجل والمرأة.

بقدر تحرك الافراد نحو “الاجتماع” والانتظام في جماعات معينة، والتحول الى الحياة الاجتماعية بدل الفردية، يكون من السهل معالجة أي مشكلة مهما كانت

الى جانب الخليّة الفِطرية التي تحدث عنها المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي في كتابه المجتمع الاسلامي، وهي عبارة عن الأسرة المتشكلة من الزواج بين الرجل والمرأة، بمعنى أنها تمثل خلية طبيعية لا تحتاج لدعوة الى اجتماع الابوين والابناء في بيت واحد، إنما هم مجتمعون بالفطرة. بينما هنالك خلايا حضارية تحتاج مبادرة لتشكيلها فهي “تتكون من مجموعة رجال يمتلكون رؤى واحدة ويسيرون في خط واحد، وعادة تتكون هذه الخلايا من فرد يؤمن بفكرة ويحمل رسالة، ويتحسس بمسؤولية اجتماعية، ثم لا يبقى وحده وإنما يبحث عن أولئك الذين يؤمنون بفكرته ويتحسسون بمسسؤوليته ويحملون رسالته، فهو يبحث عنهم في كل مكان حتى يجدهم، فاذا وجدهم وطّد علاقته بهم، يزورهم ويجلس اليهم ويتحدث معهم عن افكاره ويستمع منهم، حتى تتلاقح افكارهم جميعاً، ومن هنا نجد أن الاسلام يعطي اهمية كبيرة لزيارة الاخوان بشرط ان تكون هذه الزيارة في الله”.

إن وجود كيانات مقدسة وجميلة في مجتمعنا مثل؛ الهيئات والحسينيات والجوامع في أحياء سكنية بالعراق، تمثل فرصة متاحة للاجتماع وتبادل الافكار والاقتراحات لمناقشة ما يعانيه الناس من مشاكل، بل وأكثر من هذا، التفكير في تطوير الاوضاع السائدة، بتشجيع الزواج، او مساعدة المحتاجين، او المساعدة على بناء دار عائلة متعففة وغيرها كثير من الخطوات الحضارية المتقدمة في مجتمع حي ونابض، هذا فضلاً عن الاجتماعات البيتية من خلال إقامة المجالس الحسينية المباركة، وحتى مجالس النساء من شأنها ان تثير الغبار عن كثير من المشاكل المتراكمة والمهملة والإسهام في حلها بمشورة وتعاون مع الرجال.

إنما يحتاج الأمر لبعض الجهد العضلي والنفسي، فمشاريع ومبادرات من هذا النوع ليست بسهلة، فهناك عقبات في الطريق، أبرزها افراد من المجتمع نفسه ممن ربما تصطدم مصالحهم مع هذا النوع من الاعمال، مع ذلك؛ فان عمل الخير مثل النهر الجاري لن يتوقف، إن واجه صخرة في الطريق تجاوزه أو انحرف ليجد طريقاً آخر.

عن المؤلف

محمد علي جواد تقي

اترك تعليقا