مناسبات

الإِمَامُ عَلِي، عليه السلام، وَتَربِيَةُ حُكَمَاءُ الأُمَّةِ

((المشارك في مسابقة الكتابة بذكرى مولد أمير المؤمنين عليه السلام))

 

  • مقدمة تربوية

التربية هي مهمة الأنبياء والأوصياء، عليه السلام، في هذه الحياة، فهي مهمة مقدسة ما أُرسل نبي ولا بُعث رسول إلا ليُربِّي أمته على تعاليم السماء، ويرفعهم عن أديم الأرض وتفاهة الدنيا.

فالتربية هي في الحقيقة والواقع صناعة الإنسان، وهذا ما أشار له ربنا سبحانه في قصة كليمه موسى بن عمران، عليه السلام، حيث قال: {إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} (طه: 39)، فالله هو الذي تكفَّل بتربية أنبياء ورسله عليهم السلام.

وبنفس الوقت أمرهم أن يُربُّوا أوصياءهم على ما رباهم عليه، ليكونوا أمناء على الرِّسالة والوحي بعد أن ينتقل الرسول إلى بارئه، وهذه السلسلة المباركة النورانية مستمرة في الأجيال والمجتمعات البشرية ولا يمكن أن تخلُ الأرض من حجة لله، ظاهر مشهور، أو خفي مستور ينتظر الإذن بالظهور ليقوم بتربية الأمة على قيم الرسالة، كما ننتظر سيدنا ومولانا صاحب الزمان، عجل الله تعالى فرجه.

 

رسول الله، صلى الله عليه وآله كان يتأدَّب بآداب الله، وكان خُلقه القرآن الحكيم، وهو بدوره كان يُربِّي وصيَّه وخليفته ووزيره أمير المؤمنين الإمام علي، عليه السلام، على تلك الآداب الرَّبانية

 

فمهمة الأنبياء، عليه السلام، تربوية بالدرجة الأولى، ورسالتهم اجتماعية بامتياز، فالهدف منها الإنسان الفرد، والمجتمع الإنساني، الذي جعله الله خليفة له فيها وأمره باستعمارها، وإصلاحها وعدم الفساد فيها، قال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (الأعراف: 85)، هذا مثال تربوي ودرس راقي من رسالات الأنبياء، عليهم السلام.

 

  • التربية النبوية

المعروف أن المربِّي يعتني بالذي يُريد تربيته وتنشئته بقدر محبته وقربه إليه، ولما كان رسولنا الأكرم، صلى الله عليه وآله، هو حبيب الله وأكرم الخلق عليه، وأقربهم إليه ولذا كانت تربيته خاصة، وخالصة، حيث يصفها وصيه وصفيه وربيبه أمير المؤمنين، عليه السلام، بقوله: “وَلَقَدْ قَرَنَ اللهُ تَعَالَى بِهِ، صلى الله عليه وآله، مِنْ لَدُنْ [أَنْ] كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَك مِنْ مَلاَئِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ الْمَكَارِمِ، وَمَحَاسِنَ أَخْلاَقِ الْعَالَمِ، لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ، وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ، يَرْفَعُ لي فِي كُلِّ يَوْم عَلَماً مِنْ أخْلاقِهِ، وَيَأْمُرُني بِالاقْتِدَاءِ بِهِ” فهذا يكون ترجمة عملية للآية الكريمة {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} ولذا كان يقول، صلى الله عليه وآله: “أدبني ربي فأحسن تأديبي“، وحفيده الإمام الصادق، عليه السلام، يقول: “إن الله عز وجل أدَّب نبيه على محبَّته، فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}”، ولا تجد في العالمين مَنْ وصفه رب العالمين بهذا الوصف الراقي، ولذا قال، صلى الله عليه وآله،”إنما بعثتُ لأتمِّم مكارم الأخلاق“.

 

  • التربية العلوية الخاصَّة

فرسول الله، صلى الله عليه وآله كان يتأدَّب بآداب الله، وكان خُلقه القرآن الحكيم، وهو بدوره كان يُربِّي وصيَّه وخليفته ووزيره أمير المؤمنين الإمام علي، عليه السلام، على تلك الآداب الرَّبانية، حيث قال، صلى الله عليه وآله: “أنا أديبُ الله وعليٌّ أديبي“، فكان أوَّل مَنْ حمله من أمه حين خرجت من الكعبة المشرفة وهو على يديها الكريمتين، فلما رآه ضحك له وكأنه عرفه فأخذه منها إلى بيت عمِّه أبي طالب، عليه السلام، وقال لأمه السيدة فاطمة بنت أسد: “اجعلي مهده بجواري“) فكان يُناغيه ويُلاعبه ويُغذِّيه، ويحمله على صدره الشريف ويدور به جبال مكة ووهادها، ولمَّا ترعرع أخذه من أمه وأبيه ليُربيه في حجره حيث قال، عليه السلام، في ذلك: “وَقَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ اللهِ، صلى الله عليه وآله، بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ، وَالْمَنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ؛ وَضَعَنِي فِي حِجْرِهِ وَأَنَا وليدٌ يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِهِ، وَيَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِهِ، وَيُمِسُّنِي جَسَدَهُ، وَيُشِمُّنِي عَرْفَهُ(رائحته الطيبة)، وَكَانَ يَمْضَغُ الشَّيْءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيهِ، وَمَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْل، وَلاَ خَطْلَةً فِي فِعْل“.

هكذا كانت تربية رسول الله، صلى الله عليه وآله لأخيه وصنوه أمير المؤمنين الإمام علي، عليه السلام، ولذا صدق مَنْ قال: “أن معجزة محمد الحقيقية كان علي، عليه السلام”، وهو الذي كان يقول في كتب له لمعاوية: “فَإِنَّا صَنَائِعُ رَبِّنَا وَاَلنَّاسُ بَعْدُ صَنَائِعُ لَنَا“، وجميل ما يقوله العلامة ابن أبي الحديد في شرحه لهذه الجملة: “هذا كلام عظيم عال على الكلام، ومعناه عال على المعاني؛ وصنيعة المَلك مَنْ يصطنعه الملك، ويرفع قدره، يقول: ليس لأحد من البشر علينا نعمة، بل الله تعالى هو الذي أنعم علينا فليس بيننا وبينه واسطة، والناس بأسرهم صنائعنا فنحن الواسطة بينهم وبين الله تعالى، وهذا مقام جليل ظاهره ما سمعت وباطنه أنهم عبيد الله وأن الناس عبيدهم”، وما خفي عليك أعظم يا ابن أبي الحديد من هذا المقام الشامخ.

 

  • تربية الإمام علي، عليه السلام، للحكماء

الناظر إلى حياة وسيرة أمير المؤمنين، عليه السلام، يكاد يُجن من شدَّة الدَّهشة والحيرة في هذه الشخصية العجيبة التي لا مثيل لها، ولا شبيه، ولا نظير لها في البشر قديمهم وحديثهم، فهو الذي جمع في صفاته الأضداد، وعزت له الأشباه والأنداد، فهو الدُّرة اليتيمة في خلق الله ولا نظير له إلا صنوه رسوله الله، عليه السلام، الذي كان يحبه حباً يفوق حب الآباء والأبناء كما يصف عمَّه العباس حبه له.

ولذا قام أمير المؤمنين، عليه السلام، بتربية حكماء الأمة وقادتها وسادتها وأئمتها السبطين الحسنين، عليه السلام، وأدَّبهما بتلك الآداب الرَّبانية التي أخذها من جدهما رسول الله، كما أدَّب أولئك الرِّجال الأبطال من أبنائه العظام، وأصحابه الكرام، حيث يقول عليه السلام: “إن رسول الله، صلى الله عليه وآله، أدَّبه الله عز وجل، وهو أدَّبني، وأنا أؤدِّب المؤمنين، وأورث الأدب المكرمين“.

وكم لأمير المؤمنين، عليه السلام، من كلمات وحكم في الأدب فقد نقل سماحة العلامة المجاهد السيد هادي المدرسي (حفظه الله) في كتابه، (معجم حكم الإمام علي، عليه السلام، الذي يحتوي على أكثر من (23 ألف حكمة في أكثر من 900 عنوان)، وتحت عنوان (الأدب؛ 114 حكمة) هي ترسم رؤية أمير المؤمنين، عليه السلام، وتُعطينا تجربته الرائعة في تأديب شيعته والمحبين له.

كقوله، عليه السلام: “الأدب كمال الرجل“، و”أفضل الشَّرف الأدب“، و”أشرف حَسَب حُسنُ الأدب“، وذلك لأنه “إنما الشرف بالعقل والأدب لا بالمال والحسب“، و”نِعمَ قرين العقل الأدب“، بهذه الكلمات الرائعة وكثير مثلها كان يُربِّي أمير المؤمنين، عليه السلام، خواصه وشيعته وأصحابه ولذا تراهم في قمَّة المجتمع كمالك الأشتر الذي كان صورة قلَّ نظيرها في الرجال، وكميل بن زياد، ومحمد بن أبي بكر، وميثم التمار، ورشيد الهجري، وعمار بن ياسر، والمقداد بن الأسود وسلمان المحمدي، وأبو ذر الغفاري، وعمرو بن الحمق، وحجر بن عدي، وغيرهم من هؤلاء الأعلام الكرام.

 

  • تأديب الأمة الإسلامية

كان أمير المؤمنين، عليه السلام، الإمام المفترض الطاعة، وكانت مهمته ووظيفته ومسؤوليته الأول في المجتمع أن يُعلمهم ويُربيهم وهذا ما قاله، عليه السلام: “أيّها الناس إنّ لي عليكم حقّاً، ولكم عليَّ حقّ؛ فأمّا حقّكم عليَّ فالنصيحة لكم، وتوفير فيئكم عليكم، وتعليمكم كي لا تجهلوا، وتأديبكم كيما تعلموا“، ولذا “روي أنّه ـ عليه السلام ـ كان إذا يفرغ من الجهاد يتفرّغ لتعليم الناس، والقضاء بينهم” وروى ولده الإمام الباقر، عليه السلام: (كان عليّ، عليه السلام، إذا صلّى الفجر لم يزل معقّباً إلى أن تطلع الشمس، فإذا طلعت اجتمع إليه الفقراء والمساكين وغيرهم من الناس، فيعلّمهم الفقه والقرآن، وكان له وقت يقوم فيه من مجلسه ذلك“، فكان يتحدَّث التاريخ والمؤرخون: أن بيت ومجلس الإمام علي، عليه السلام، هو مجلس قرآن، وذكر، وعلم، وفقه، وأدب.

 

يقول الإمام الباقر، عليه السلام: (كان عليّ، عليه السلام، إذا صلّى الفجر لم يزل معقّباً إلى أن تطلع الشمس، فإذا طلعت اجتمع إليه الفقراء والمساكين وغيرهم من الناس، فيعلّمهم الفقه والقرآن، وكان له وقت يقوم فيه من مجلسه ذلك

 

وكان أول ما يشير عليهم أن يبدؤوا بأنفسهم، كقوله، عليه السلام: “أفضل الأدب ما بدأت به نفسك“، ثم تلتفت إلى أهلك وأبنائك، كما أمر الله تعالى، ويخصَّ المؤمن بقوله، عليه السلام: “يا مؤمن، إن هذا العلم والأدب ثمن نفسك فاجتهد في تعلمهما، فما يزيد من علمك وأدبك يزيد في ثمنك وقدرك“، فأنت – كإنسان ومؤمن – أحوج ما تكون إلى العلم، والفقه، والتربية والأدب وحُسن الخُلق الذي يزيد في العمر، ويبارك في الرزق، ويجلب المحبة من الناس، وحُسن الذِّكر والسيرة الطيبة.

ولذا كان، عليه السلام، يقول لهم ولنا ولكل إنسان: “إن الناس إلى صالح الأدب أحوج منهم إلى الفضة والذهب“، أو”إنكم إلى اكتساب الأدب أحوج منكم إلى اكتساب الفضة والذهب“، لأن “العلم وراثة كريمة، والآداب حُلل مجددة“، فاحرص على كسب الأدب لأنك تكسب الجنة.

وكان الإمام علي، عليه السلام يحرص كل الحرص على التأدب بآداب الله القرآنية، لأنه: “مَنْ لم يصلح على أدب الله لم يصلح على أدب نفسه“، ويُعطينا لفتات أدبية راقية جداً كقوله، عليه السلام: “إن الله تعالى أدَّب عباده المؤمنين أدباً حسناً، فقال جلَّ من قائل: {يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف}”، هذه الإشارة إلى العفِّة ووصفها من الأدب الحسن، هي في غاية الروعة الدقة والجمال.

فالمؤدِّب للناس عليه أن يبدأ بنفسه، كما قال في رسالته: “وَإِنَّمَا هِيَ نَفْسِي أَرُوضُهَا بِالتَّقْوَى لِتَأْتِيَ آمِنَةً يَوْمَ الْخَوْفِ الأَكْبَرِ، وَتَثْبُتَ عَلَى جَوَانِبِ الْمَزْلَقِ.

وَلَوْ شِئْتُ لاَهْتَدَيْتُ الطَّرِيقَ، إِلَى مُصَفَّى هذَا الْعَسَلِ، وَلُبَابِ هذَا الْقَمْحِ، وَنَسَائِجِ هذَا الْقَزِّ (الحرير)، وَلكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ، وَيَقُودَنِي جَشَعِي إِلَى تَخَيُّرِ الأَطْعِمَةِ ـ وَلَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوِ بِالْيَمَامَةِ مَنْ لاَ طَمَعَ لَهُ فِي الْقُرْصِ، وَلاَ عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ ـ أَوْ أَبِيتَ مِبْطَاناً وَحَوْلِي بُطُونٌ غَرْثَى، وَأَكْبَادٌ حَرَّى.. أَأَقْنَعُ مِنْ نَفْسِي بِأَنْ يُقَالَ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَلاَ أُشَارِكُهُمْ فِي مَكَارِهِ الدَّهْرِ، أَوْ أَكُونَ أُسْوَةً لَهُمْ فِي جُشُوبَةِ الْعَيْشِ“!

وهذا تلميذه النجيب أبو الأسود الدؤليُّ (رحمه الله) يقول في هذا المعنى:

يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ المُعَلِّمُ غَيْرَهُ * هَلَّا لِنَفْسِكَ كَانَ ذَا التَّعْلِيمُ

وَأَرَاكَ تُصْلِحُ بِالرَّشَادِ عُقُولَنَا * أَبَدًا وَأَنْتَ مِنَ الرَّشَادِ عَقِيمُ

لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ * عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ

ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَانْهَهَا عَنْ غَيِّهَا * فَإِذَا انْتَهَتْ عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيمُ

فَهُنَاكَ يُقْبَلُ مَا تَقُولُ وَيُقْتَدَى * بِالعِلْمِ مِنْكَ وَيَنْفَعُ التَّعْلِيمُ

(جواهر الأدب؛ للهاشمي: ٤٨١).

عن المؤلف

الحسين أحمد كريمو

اترك تعليقا