ثقافة رسالية

هل لنا من توبة؟

يقول تعالى: {وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}.

لا غرابة أن يسقط الإنسان في بعض الهفوات التي تجره الى ارتكاب المعاصي والذنوب، لكن الغرابة ان يبقى بعيداً عن الأوبة الى خالقه الذي فتح له أبواب التوبة ما دام فيه عِرق ينبض. يقول الإمام زين العابدين في مناجاة التائبين: “إلهي أنت الذي فتحت لعبادك بابا الى عفوك سميته التوبة فما عذر من أغفل دخول الباب بعد فتحه”.

 

إن سعادة الإنسان وفلاحه في الدنيا والآخرة لا يكون إلا العودة الصادقة الى الله تعالى، وما اروع ما قاله الإمام علي، عليه السلام: مَن أصلح ما بينه وبين الله؛ اصلح الله ما بينه وبين الناس”

 

ولأن الله تعالى يحب عباده وهو الذي خلقهم ليربحوا لا ليربح هو عليهم، وهو القائل في حديث قدسي: “خلقتكم لتربحوا عليَّ لا لأربح عليكم”، وإذا كان الله تعالى بهذه الدرجة العالية من الرحمة بعباده جميعا فكيف بعبده المذنب العائد إليه.

ورد عن الإمام الباقر، عليه السلام: “إن الله تعالى أشد فرحا بتوبة عبده، من رجل أضل رحالته وزاده في ليلة ظلماء فوجدها”.

 

  • حقيقة التوبة

“التوبة في الاصل هي الرجوع عن الذنب ( هذا إذا مانسبت للمذنبين) ولكن الآيات القرآنية والروايات نسبتها الى الباري تعالى، وعليه يصبح معناها: الرجوع الى الرحمّة الإلهية، تلك الرحمة التي سُلبت من الإنسان إثر ارتكابه للمعصية والذنب، فبعد عودته لموقع العبودية والعبادة، تمتد اليه الرحمة الإلهية من جديد، وبناء على ذلك فإن أحد اسماء الباري تعالى، هو التواب”.

وحين يرجع الإنسان الى الله تعالى فإنه ـ تعالى ـ سيطهر قلبه ويغير صحيفة أعماله، وذلك بمحو آثار الذنوب التي ارتكبها الإنسان، لكن ذلك شريطة العودة الصادقة، وهذا ما سينعكس على واقع الفرد من تجليات الرحمة الإلهية.

 

  • أركان التوبة

كما أن للبيت أركان لا يقوم البناء إلا بها، وإلا استحال تشييده، كذلك فإن للتوبة أركانا لا تتم حقيقتها إلا بها، وهذا ما ورد عن أمير المؤمنين، عليه السلام، في كلماته القصار في نهج البلاغة:

قال، عليه السلام، (لقائل قال بحضرته أستغفر الله): ثكلتك أمك أتدري ما الاستغفار؟ الاستغفار درجة العليين. وهو اسم واقع على ستة معان:

أولها: الندم على ما مضى.

والثاني: العزم على ترك العود إليه أبدا.

والثالث أن تؤدي إلى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى الله أملس ليس عليك تبعة.

والرابع: أن تعمد إلى كل فريضة عليك ضيعتها فتؤدي حقها.

والخامس: أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السُحت (المال من كسب حرام) فتذيبه بالأحزان حتى تلصق الجلد بالعظم وينشأ بينهما لحم جديد.

والسادس: أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية فعند ذلك تقول أستغفر الله.

وورد عنه عليه السلام ايضا: “من ندم فقد تاب، من تاب فقد أناب”.

إذن فأول أركان التوبة هو الندم على الذنب، وهذا الندم يجب ان يتحول الى واقع عملي يدفع الإنسان المذنب نحو الأعمال الصالحة، وإلا فما فائدة الندم لقلقة على اللسان، او شعور في القلب دون عمل خارجي!

ثم ينتقل الإمام الى ركن آخر للتوبة وهي عدم العود الى ذلك الذنب، ولهذا نجد القرآن الكريم في سورة الحجرات يؤكد أن المؤمن بذاته يكره الفسوق والعصيان بمعونة الله تعالى، لأن القلب الواحد لا يمكن أن يحمل في آن واحد الإيمان وحب الله، وفي نفس الوقت يرتكب الموبقات والمعاصي. يقول الله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ}.

 

ورد عن الإمام الباقر، عليه السلام: “إن الله تعالى أشد فرحا بتوبة عبده، من رجل أضل رحالته وزاده في ليلة ظلماء فوجدها”.

 

وإذا كان الإنسان قد ترك  ـ عمدا أو سهوا ـ واجبا من الواجبات كصلاة الفريضة، وصيام شهر رمضان، فإن عليه قضاء الفائت من ذلك الواجب ودفع الكفارات، وهذا هو الركن الثالث من أركان التوبة.

ثم يعدد الإمام أركانا أخرى، وهي ارجاع حقوق الناس، سواء كانت مادية كدَين وما اشبه، أو معنوية كالغيبة والسخرية وما الى ذلك من الحقوق. وقد يتلذذ الجسم بمعصية الله لهنيئات بسيطة وتعقبها ندم طويل، في قبال ذلك يجب أن يتذوق الجسم مرارة طاعة الله، من قبيل القيام لصلاة الله، ومساعدة الله المحتاجين وغيرها من الأعمال التي تصب في طاعة الله تعالى.

 

  • الأشهر الثلاثة وفرصة العودة الصادقة

من رحمة الله تعالى بعباده أن جعل له ابوابه مفتوحة في كل الاوقات، لكنه ـ تعالى ـ جعل مواسما عبادية تمكن العبد من قطع المسافات الطويلة في مسيرة العودة إليه جلّ شأنه.

وهذا المواسم اشبه بمحطات يتزود منها المسافر لطريق طويل ووعر، ومن هذه المحطات هي الأشهر الثلاثة بداءً بشهر رجب وانتهاء بشهر رمضان، وشهر رجب من الأشهر الحُرم التي لها الفضل الكثير عند الله تعالى، ولذلك حُرم فيها القتال.

وشهر رجب هو أول الأشهر الحرم ووردت فيه روايات كثيرة في بيان لفضله وأهميته لتكامل الإنسان المؤمن وعودته الصادقة الى الله تعالى. قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: “ألاَ إنّ رجب شهر الله الأصمّ، وهو شهر عظيم؛ وإنّما سُمّي الأصمَّ لأنّه لا يقارنه شهر من الشهور حرمةً وفضلاً عند الله تبارك وتعالى. وكان أهلُ الجاهليّة يعظّمونه في جاهليّتها، فلمّا جاء الإسلام لم يَزدَد إلاّ تعظيماً وفضلاً ألا وإن رجب شهر الله، و شعبان شهري، و شهر رمضان شهر أمتي”.

وقال أيضا: “‌إن في الجنة نهراً يقال له رجب ماؤه أشد بياضاً من الثلج وأحلى من العسل، من صام يوماً من رجب شرب منه”.

إن سعادة الإنسان وفلاحه في الدنيا والآخرة لا يكون إلا العودة الصادقة الى الله تعالى، وما اروع ما قاله الإمام علي، عليه السلام: مَن أصلح ما بينه وبين الله؛ اصلح الله ما بينه وبين الناس”.

عن المؤلف

أبو طالب اليماني

اترك تعليقا