أسوة حسنة

الإِمَامُ عَلِيُّ الهَادِي والسُّلطَةِ العَبَّاسِيَّةِ الظَّالِمَة

  • مقدمة سياسية

السياسة إذا ابتعدت عن الدِّين والعقيدة، وفرغت من القيمة والفضيلة، وصارت فن المراوغة والكذب، وفن الدَّجل لتحقيق المصالح الشخصية، وشعارها الغاية تبرر الوسيلة، كشعرة معاوية بن هند، بل صارت فن الممكن، واكذب ثم اكذب حتى يُصدِّقك الناس، عند ذلك سيعم الفساد في البلاد والعباد، وإذا عمَّ ذلك فلينتظر الجميع السَّطوة الإلهية ونزول العذاب من السماء.

السياسة في الإسلام يجب أن تكون تقية نقية نظيفة تعمل بشرع الله لترسيخ قيم الدِّين والشريعة الإسلامية والحُكم بالعدل، وبسط القسط والمساواة في المجتمع ليسعد الناس جميعاً في ظلها، ولكن اختطفها رجال قريش مبكراً من صاحبها ليستأثروا بها، ويتداولوها فيما بينهم، من تيم، إلى عدي، ثم إلى أمية ولكنها عندما وصلت إلى الشجرة الملعونة الأموية تحولت إلى ملك عضوض حذَّر منها رسول الله، صلى الله عليه وآله، ولذا عضَّت الأمة سلطتهم وأذاقتهم مرَّ العيش، فكانت الحياة أمرَّ من العلقم على أهل الدِّين والصلاح لحوالي قرن من الزمن.

ثم وثب عليهم البيت العباسي بالكذب والدجل أيضاً حيث بدؤوا دعوتهم إلى أئمة أهل البيت، عليهم السلام، ثم انقلبوا عليهم بشكل عجيب وغريب، وفعلوا بهم أشدَّ ما فعله بنو أمية من القتل التشريد والمضايقة والملاحقة لأئمتهم، يقول المسعودي في سر تسمية المنصور بهذا الاسم: “إنّ السرّ في تسمية نفسه بالمنصور، لأنّه انتصر على العلويين”، وليس على الأمويين لأن الدَّعوة قامت باسم الأئمة، عليهم السلام، من العلويين خاصة وهو الذي بشَّره الإمام الصادق، عليه السلام، بالخلافة والحُكم، ولكن في عهد الإمام الهادي تحوَّلت إلى لعبة بيد الأتراك، يقول سماحة السيد المرجع المدرسي (حفظه الله) فيها: “هكذا أصبحت الخلافة العباسية شعاراً لكل الطامعين في السلطة، وأصبحت المؤامرة والدجل سمة بارزة للسياسة، وكل ذلك كان نهاية طبيعية للإرهاب والدَّجل الذي مارسه الرُّواد الأوائل لهؤلاء الخلفاء”. (الإمام علي الهادي، عليه السلام، قدوة وأسوة: ص15).

فهذا المنصور يعترف وقول: “قتلت من ذريّة فاطمة ألفاً أو يزيدون، وتركت سيّدهم ومولاهم وإمامهم جعفر بن محمّد”، ويروي الطبري فيقول: “إنّه ترك خزانة فيها رؤوس من العلويين، وقد علّق في كلّ رأس ورقة كتب فيها ما يستدلّ على اسمه واسم أبيه ومنهم شيوخ وشبّان وأطفال”.

وعندما لامه عمّه عبد الصمد بن علي على هذا الإسراف في القتل، قال له: “آل أبي طالب لم تغمد سيوفهم ونحن بين قوم رأونا بالأمس سوقة واليوم خلفاء، فليس نتعهد هيبتنا إلاّ بنسيان العفو واستعمال القوّة”، وقال السيوطي: “قتل خلقاً كثيراً حتّى استقام ملكه”، هذا الذي يعرف نفسه وأهله وأنهم كانوا من عامة الناس وسوقتهم وأهل البيت قادة الدِّين والدنيا وتلك هي حقيقتهم، ولذا تراه يحمل حقداً عجيباً عليهم فكان يُزبد ويتوعّد الإمام الصادق، عليه السلام، بالقتل، يقول: “لأقتلنّك ولأقتلنّ أهلك حتّى لا أُبقي على الأرض منكم قامة سوط”.

 

  • الإمام الهادي وحُكام عصره

عاش الإمام علي الهادي، عليه السلام، في ذلك الجو الخانق، وفي تلك الدولة الظالمة كان يعيش الإمام العاشر من أئمة المسلمين، عليه السلام، في مدينة جده حيث أخذ الإمامة عن والده العظيم المعجزة الإمام محمد الجواد، عليه السلام، وهو في الثامنة من عمره وقام فيها خير قيام لأكثر من ثلاثة عقود، ولك أن تتصوَّر تلك المعاناة التي كان يُعانيها الإمام الهادي، عليه السلام، بحيث أن الحاكم العباسي عندما أخذ والده الجواد، عليه السلام، إلى بغداد، أرسل إليه وهو طفل في السادسة مَنْ يُعلِّمه ويُربيه على قيم بني العباس ليُخضعه لهم ولسلطتهم، إلا أن المربِّي وجد الإمام ليس بحاجة إلى تربية وتعليم بل كان آية في كل شيء من العلم، والفضل والدِّين كما يعترف الرجل نفسه.

 

التاريخ يشهد أن الإمام الهادي، عليه السلام، عاصر ستة من سلاطين الجور العباسي، (المعتصم، الواثق، المتوكل، المنتصر، المستعين، المعتز)، وكان أطولهم مدة أظلمهم حكماً المتوكل، وذلك لأنه، عليه السلام، ولد في (2 رجب الأصب، 212هـ)، واستشهد شاباً في 42 من عمره الشريف

 

والتاريخ يشهد أن الإمام الهادي، عليه السلام، عاصر ستة من سلاطين الجور العباسي، (المعتصم، الواثق، المتوكل، المنتصر، المستعين، المعتز)، وكان أطولهم مدة أظلمهم حكماً المتوكل، وذلك لأنه، عليه السلام، ولد في (2 رجب الأصب، 212هـ)، واستشهد شاباً في 42 من عمره الشريف، وكان مطمح العين والأبصار ويُشار إليه باليد قبل البنان في مدينة جده رسول الله، صلى الله عليه وآله، والحاكم العباسي إما في بغداد أو في مدينة الجند سامراء المتربعة على كتف دجلة الخير، وهذا ما أخرجه من تحت المراقبة، وأن يكون تحت أنظار الحاكم مباشرة فكان لا بدَّ من أن يأتي به إلى سامراء ليقطعه عن أصحابه، وتلاميذه، وأهل بيته، وشيعته، وليراقبه عن كثب وليعدَّ عليه أنفاسه فهو جد الإمام الذي سيكون أخر الخلفاء المهدي المنتظر، عليه السلام.

 

  • الإمام الهادي، إلى سامراء

الإمام الهادي، عليه السلام، كان أعز من عقاب الجو في المدينة المنورة، ولكن السلطة العباسية لا يمكن لها أن تغضَّ الطرف عنه فهو الأسد الخادر في عرينه، ورغم كل الجواسيس لم يطمئن المتوكل العباسي فأرسل زوجته لتكون له عيناً على الإمام وبيته، ولما لم يطمئن أرسل إليه وزيره برسالة تحمل كل معاني التعظيم والتقدير والتبجيل ويدعوه فيها إلى زيارته لشوقه إليه ومحبته له، وكل ذلك كان حذراً من ردَّة الفعل في المدينة وأهلها، ومما جاء في رسالته: “وأمير (المواطنين) مشتاق إليك، يحب إحداث العهد بك، والنظر إلى وجهك.. فإن نشطتَ لزيارته والمقام قبله، ما أحببت، شخصتَ ومَنْ اخترتَ من أهل بيتك ومواليك وحشمك على مهلة وطمأنينة، ترحل إذا شئتَ، وتنزل إذا شئتَ وتسير كيف شئتَ، فإن أحببت أن يكون يحيى بن هرثمة مولى أمير (المواطنين) ومَنْ معه من الجند يرحلون برحيلك، يسيرون بمسيرك، فالأمر في ذلك إليك، وقد تقدمنا إليه بطاعتك.. فاستخر الله حتى توافي أمير (المواطنين) فما أحد من إخوته، وولده، وأهل بيته، وخاصته، ألطف منه منزلة، ولا أحمد له أثرة، ولا هو لهم أنظر، وعليهم أشفق، وبهم أبر، وإليهم أسكن منه إليك”، وذلك في 243هـ فراح الإمام، عليه السلام، يعدُّ العدَّة للسفر الذي لن يعود منه.

ولكن هل كانت هذه الرسالة صادقة من المتوكل على الشيطان، أم أنها كانت فخَّاً نصبه وحفرة حفرها ليُخرج الإمام، عليه السلام، من معقله وحصنه وعرينه دون شوشرة، أو شك يثيره في قلوب الأمة والعلويين وشيعتهم في المدينة وخارجها؟

ونأخذها من يحيى بن هرثمة – الذي تولّى جلب الإمام، عليه السلام إلى سامراء – قوله: “وعندما أرسلني المتوكل إلى المدينة لإشخاص الإمام الهادي، عليه السلام، إلى سامراء، ودخلتُ المدينة، ضجَّ أهلها ضجيجاً عظيماً ما سمع الناس بمثله خوفاً على الإمام، عليه السلام، وأضاف يحيى: وقامت الدنيا على ساق؛ لأنّه كان محسناً إليهم ملازماً”.

فالتأمل في تسلسل الأحداث كان يشي ويُؤشِّر إلى غير ذلك لأن الوزير عندما وصل المدينة فتَّش بيت الإمام تفتيشاً دقيقاً، فعن أي شيء يبحث؟ وهل فتَّش بيت الإمام، عليه السلام، من عند نفسه أم أن الحاكم هو الذي أمره بذلك؟

 

  • في خان الصعاليك

ومسألة أخرى تُشير إلى أن المتوكل الموغل بالحقد والبغض لأهل البيت، عليهم السلام، كيف استقبل الإمام في سامراء عندما وصل إليها؟ هل كان استقبالاً يليق بالإمام وعظمته، أو هل يتَّفق هذا الاستقبال مع رسالته وحبه وشوقه لرؤية وجهه الشريف؟

يقول سماحة السيد المدرسي في ذلك: “عندما نزل الإمام مدينة سامراء أراد المتوكل النيل من شخصيته عند الناس فأمر أن يسكن دار الصعاليك لمدة أيام ثلاث، قبل أن يدخل عليه وهو لا يعلم أن قدر الإمام عند الله، أو عند عباد الله الصالحين ليس بما يسكنه من دار أو يحوزه من ثروة، وإنما بزهده في درجات الدنيا ورغبته فيما عند الله، فلا يزداد بتواضعه وصبره على الأذى في جنب الله إلاّ زلفى من الله”.

ولهذا دخل عليه صالح بن سعد في ذلك الخان وقال له: جعلتُ فداك في كل الأمور أرادوا إطفاء نورك والتشهير بك حتى أنزلوك هذا الخان الأشنع خان الصعاليك؟، فقال: “ههنا أنت يا ابن سعيد؟ ثم أومأ بيده، فقال: انظر؛ فنظرتُ فإذا بروضات آنقات، وروضات ناضرات، فيهن خيرات عطرات، وولدان كأنهن اللؤلؤ المكنون، وأطيار، وظباء، وأنهار تفور، فحار بصري والتمع وحسرت عيني، فقال، عليه السلام،: حيثُ كنَّا فهذا لنا عتيد، ولسنا في خان الصعاليك“.

فالإمام حيثُ كان أو يكون هو محور الكون وكل الأماكن لديه سواء، لأن المكان بالساكن فيه والإمام حيث ينزل ترى الخيرات والبركات، فالناظر في تاريخ الرسالات يجد أن السلطات هي مَنْ يخاف ويخشى الإمام، وليس العكس.

فبني العباس كانوا يخافون من وجود الإمام وشخصه وشاخصه على أنفسهم وسلطتهم ودولتهم فعندما استقدم المتوكل الإمام الهادي، عليه السلام، إلى سامراء كان يهدف إلى إطفاء نوره ولكن أبى الله عليه ذلك، لأنه من نور الله الذي لا يطفأ..

عن المؤلف

الحسين أحمد كريمو

اترك تعليقا