قانون

تأثير الوسائل الحديثة للانجاب على الحد من طلب التفريق للعقم

أعطت الكثير من تشريعات البلدان العربية، متأثرة بما ذهب إليه الجانب الأكبر من الفقهاء المسلمين الحق بطلب التفريق القضائي لوجود بعض العيوب التي تُعد مانعا من موانع كمال الزوجية ولعل من أهمها هو العقم او عدم القدرة على الانجاب، الامر الذي يتنافى مع حكمة الزواج في استمرار النسل، ذلك أن من أسمى غايات الزواج هو التناسل فمن الظلم أن يحرم أحد الزوجين من طفل، ما دام قادراً على إنجاب الولد والذرية، فمن المصلحة للمجتمع تمكين أحد الزوجين من طلب الفسخ لعدم الإنجاب. مستدلين بذلك على قوله سبحانه وتعالى: (لا يكلف الله نفسا الا وسعها)(1)، اي لا يكلف الله الزوج المتضرر من الصبر على الزوج صاحب العيب صبرا على ضرر لا يُمكن استمرار الحياة الزوجية معه. وهذا ما أيده رسول الله (ص) بقوله: (لا ضرر ولا ضرار في الاسلام).

بيد ان الامر اختلف سواء على مستوى الفقهاء او التشريعات، بشأن من يمتلك حق طلب التفريق لوجود العلة، اذ ذهب الاحناف الى القول بثبوته للزوجة دون الزوج، فالأخير يملك الطلاق، فيما ذهب الجمهور وهو الأحسن الى القول بأن التفريق للعيوب هو من حق كلا الزوجين([1])، فالزوج الذي يجد في زوجته عيبا مانعا من موانع كمال الزوجية فإن من حقه اللجوء الى طلب التفريق القضائي.

وقد اخذ المشرع العراقي في المادة (43/ أولا/ 5) من قانون الاحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 بما ذهب إليه الرأي الاول في جعل طلب التفريق للعقم من حق الزوجة دون الزوج، بقولها: “للزوجة طلب التفريق عند توفر احد الاسباب الاتية: (اذا كان الزوج عقيما او ابتلى بالعقم بعد الزواج ولم يكن لها ولد منه على قيد الحياة).

ولكن التطورات الحاصلة في عالم التكنولوجيا وتأثيراتها على الكثير من مسائل الاحوال الشخصية خاصة القفزات التي حصلت في عالم الطب قد غيرت الكثير من المفاهيم والقضايا التي كانت تبدو عسيرة في وقت ما، ولعل من أبرز تلك الاكتشافات هو التلقيح الاصطناعي او أطفال الأنابيب، لذا وفي ظل هذه التطورات الحاصلة لنا ان نتساءل عن مدى تأثيرها على فاعلية المادة القانونية سالفة الذكر:

لاشك انه اذا وافقت الزوجة على التلقيح الصناعي فلا داعي للنقاش اذا ما تكللت العملية بالنجاح والوصول الى الانجاب، اذ ينتفي الغرض من طلب التفريق للعقم، لكن اذا لم توافق على طلب اللجوء للتلقيح الصناعي فهل يمكن ارغامها على ذلك اذا ما طالبت بالتفريق؟ واذا ما قلنا بإلزامها وأجرت العملية لكنها باءت بالفشل ام حدث اسقاط اثناء الحمل ام مات الطفل بعد فترة وجيزة من ولادته، فهل يحق لها طلب التفريق بعد ذلك ام عليها الإلتزام باعادة التجربة؟ وأخيرا نتساءل عن الأساس لهذا الإلزام؟

قبل الاجابة عن هذا التساؤل لابد اولا ان نتطرق الى معنى التلقيح الصناعي وكيفيته، فالإخْصَاب في المُخْتَبَر أو التلقيح في المختبر او التلقيح الصناعي داخليا كان ام خارجيا هو عبارة عن عملية يتم فيها إخصاب البويضات من قبل خلايا الحيوانات المنوية بتدخل أجنبي خارج الطرق الطبيعية. اذ يعد علاج رئيسي للعقم عندما تبوء جميع الوسائل الأخرى لتكنولوجيا المساعدة للتناسل بالفشل. وتنطوي العملية على التحكم في عملية التبويض هرمونيا، وسحب البويضات (البيض) من المبيض في المرأة وترك الحيوانات المنوية تقوم بالإخصاب في وسط سائل. ومن ثم يتم نقل البويضة المخصبة (البيضة الملقحة) إلى رحم المريضة بقصد حدوث حمل ناجح (2).

ويلجأ إليه الأطباء عندما تتعذر عملية الإخصاب الطبيعية للبويضة، يساعد التلقيح الاصطناعي على التغلب على العقم لأسباب عديدة لدى النساء الا انه ليس محل بحثنا، اذ ليس للزوج طلب التفريق لعقم زوجته، كما يمكن أن يساعد في التغلب على الكثير من أسباب العقم لدى الذكور، اذا كان العيب متعلقا بنوعية الحيوانات المنوية، وكثافتها، اذ يتم حقن الحيوانات المنوية مباشرة في البويضة اذا ما وجدت صعوبة في اختراق البويضة، ومعدلات نجاح الحقن المجهري مساوية للإخصاب بأطفال الأنابيب. وهي أكثر الأسباب انتشارا في عقم الرجال بخلاف انعدم الحيوانات المنوية التي تعتبر حالة نادرة.

وبذلك نجد ان هذا التطور التكنولوجي الحاصل قد ساهم في الحد من ظاهرة التفريق للعقم في الحالات الممكنة طبيا وبايولوجيا كما تقدم ذكره، الا انه لم يقضي عليها نهائيا اذ يبقى الأمر موضع الجدل والنقاش في حالات عدم رغبة الزوجة باللجوء الى عملية التلقيح الصناعي، فهل بالامكان اجبارها على ذلك؟!

للإجابة عن هذا السؤال نقول: ان نص المادة (43/أولا/5) القائل بأنه (اذا كان الزوج عقيما أو ابتلى بالعقم بعد الزواج ولم يكن لها ولد على قيد الحياة) والتي جعلت عقم الزوج، سببا مبررا لطلب الزوجة التفريق سواء أكان عقيما ابتداء أم ابتلى بالعقم بعد الزواج لكي لا تحرم الزوجة من اشباع عاطفة الأمومة في نفسها. بيد أن المشرع منع حق المرآة بطلب التفريق لعقم الزوج اذا أثمر الزواج ولو ولدا واحدا ذكرا أم أنثى وبقي على قيد الحياة. ولا مجال لتطبيق هذه الفقرة اذا كانت الزوجة عقيمة، اذ لا يحق للزوج طلب التفريق وانما له اقامة دعوى طلاق على وفق المادة (٣٩) من القانون.

ويثبت العقم بالإحالة الى معهد الطب العدلي، الا انه ينبغي التنبه الى ان المراد بالعقم هنا هو الذي لا يؤمل شفاؤه أما إذا تضمن التقرير امكان الشفاء، خلال مدة معينة فلا يحكم القاضي بالتفريق، لانتفاء الحاجة إليه، وهذا ما ذهب إليه القضاء العراقي في قرار لمحكمة الاحوال الشخصية على انه (اذا بين التقرير الطبي بأن لديه ضعف في السائل المنوي في الوقت الحاضر ويمكن الاستفادة من تقنية أطفال الأنابيب لذا فإن هذا الوصف لا يعد عقيما وحكم المحكمة برد الدعوى يكون حكما صحيحاً)(3).

الا ان ذلك لا يعني بحال ارغام الزوجة على اللجوء الى التلقيح الاصطناعي داخليا كان ام خارجيا، اذ يبقى تدخل الطبيب غير مسموح به الا بموافقة الزوجين، وان يكون الرضا بكل حرية وسيادة دون اجبار وحال حياتها وأثناء قيام الرابطة الزوجية، وان يستمر هذا الرضا حتى وقت التدخل الطبي (4)، فهو شرط أساسي لا يمكن ارغم أحد الزوجين على اللجوء إليه، فهو رأي شخصي بحت كما أنه يرتبط بقناعة وعقيدة الزوج.

بيد ان اللجوء للتلقيح الاصطناعي بتراضي الزوجين يمكن اعتباره سبيلا للحد من الطلاق القضائي او التفريق القضائي للعقم. وهذا ما ذهبت إليه بعض التشريعات المقارنة كما ذهبت إليه المادة 45 مكرر من قانون الأسرة الجزائري (أمر رقم 05-02 لسنة 2005) بقولها على ان التلقيح الاصطناعي يخضع لشرط رضا الزوجين وأثناء حياتهما، على الا تتعسف الزوجة في حقها برفض التلقيح بالرغم من الحاجة الماسة إليه لاستمرار الحياة الزوجية والحد من التفريق للعقم. وإذا ما رفضت الزوجة ذلك فيحق المحكمة حينئذ ان ترفض طلبها للتفريق مع الحفاظ على حقها في عدم الانجاب بالوسائل الحديثة.

ومما تقدم  ان هذه الوسائل الحديثة قد ساهمت في الحفاظ على كيان الأسرة من التفكك وقللت بشكل واضح من طلب التفريق للعقم..

 

المصادر:
  • د. حسن محمد كاظم، د. حيدر حسين كاظم، د. علي شاكر عبد القادر، التفريق للعيوب التناسلية للزوجين في القانون والشريعة، مجلة جامعة كربلاء العلمية، المجلد السابع، العدد الثالث، انساني، 2009، ص55 الى 56.
  • د. سعد مومي، التلقيح الصناعي في القانون الاماراتي والقانون المقارن، مجلة الفقه والقضاء والقانون، تصدر عن دار القضاء في دولة الامارات، السنة الثالثة، العدد الرابع، 2015، ص 47-48.
  • رقم القرار 7050، هيئة الاحوال الشخصية والمواد الشخصية، 2016، ت 7307، نقلا عن: استاذنا الدكتور حيدر حسين كاظم الشمري، المختصر في أحكام الزواج والطلاق وآثارهما، ط1، مطابع دار الوارث، كربلاء المقدسة، 2020، ص161
  • جيلالي تشوار، رضا الزوجين على التلقيح الاصطناعي، م. ع. ق. إ.، كلية الحقوق، 2006، العدد 04، ص62.

عن المؤلف

محمد جواد منذور

اترك تعليقا