ثقافة رسالية

كيف تكون أمة الى جانب الحق ؟

من معالم الحضارة الإسلامية، كما رسمها لنا ربنا –تعالى- في سورة المائدة؛ الطاعة والتسليم، فالطاعة للّه ورسوله وأولي ‏الأمر الشرعيين الذين اختارهم …

من معالم الحضارة الإسلامية، كما رسمها لنا ربنا –تعالى- في سورة المائدة؛ الطاعة والتسليم، فالطاعة للّه ورسوله وأولي ‏الأمر الشرعيين الذين اختارهم اللّه، و أوصى بهم الرسول، ‏صلى الله عليه وآله وسلم، والوفاء بذلك الميثاق الذي أخذه الخالق -جلّ وعلا- على الإنسان، واعترف به الإنسان نفسه، والتسليم يكون لقيم الحق.

  • معرفة أهل الحق

إن معرفة هذه الحقيقة، وهي أن هناك حقاً وباطلاً، تبدأ في بادئ الأمر قضية بسيطة و واضحة؛ فالجميع يعترف بمبدأ الحق، ويقرّ بأن الباطل قبيح و واجب اجتنابه، ولكن المشكلة لا تكمن في الاعتراف ‏الفطري بوجود الخط الفاصل بين الحق و الباطل، بل في الاعتراف العملي، والتمييز بين هاتين الجبهتين. والسبب في ذلك أن النفس البشرية تميل إلى خلط الأوراق وعدم الوضوح، ذلك لأن الوضوح يضع الإنسان وجهاً لوجه أمام مسؤوليته، ويجعله أمام ضميره، وأمام حقائق الحياة، في حين ان الغموض يتيح له فرصة الالتفاف حول‏الحق والتبرير. ولذلك؛ فإن مـن أهم وأعظم ما تقدّمه لنا رسالات اللّه، هو إيجاد هذا الفصل في داخل نفس الإنسان بين الحق والباطل، لذلك نقرأ في الدعاء: “و أرني الحق حقاً فأتبعه، والباطل باطلاً فاجتنبه، ولا تجعله عليّ متشابهاً فأتبع هواي بغير هدى مـنك‏”. (1)
إن هذه الفكرة؛ أي وجود حق وباطل، وأن هناك فاصلاً بينهما، وانه لا يمكن أن يختلطا، هي فكرة حضارية أساسية في ‏رسالات اللّه، لأن هذه الفكرة تفرز فكرة أخرى وراءها وهي: أن الحق مادام حقاً فإنه سوف يكون ‏ثابتاً، وأن اللّه هو الذي يضمـن تطبيقه، وهو الذي يقف وراءه بكل قوته وعظمته. لذا على الإنسان أن يبحث عن الحق، وما هو المـنهج السليم للوصول إليه، ومـن هم أصحابه؟ فالذي لا يعترف بأن هناك حقاً وباطلاً، وينظر إلى الناس نظرة واحدة، لن يتسنى له معرفة اهل الحق لانهم قد يكونون مجموعة ضعيفة، وقد يمثلون فئة تتناقض مصالحهم مع مصالحه، بل إن التفكير في هذه المسالة أساساً عملية صعبة، فالغالبية العظمى مـن الناس يهربون مـنه، ويفضّلون أن ينساقوا في تيار الأحداث كما هي، وأن يخوضوا مع الخائضين.

  • أدوات البحث عن الحق

والإنسان عندما يريد أن يبحث عن الحق، فإنه يفكر بداية في أدوات هذا البحث، وعقل الإنسان هو أحد هذه ‏الأدوات، وبداية الطريق إلى ذلك أن ننطلق مستندين إلى المـنطق السليم، لان هدفنا، الوصول إلى الحق، وطريقنا إلى الحق ‏هو عقلنا، والعقل في المرحلة الاولى يجب أن يبحث عن الطريق المناسب الذي يوصلنا إلى الحق.
أما المرحلة الثانية فهي التحرّك، فنحن إذا لُذنا بالصمت والسكون فإنّنا لا يمكن ‏أن نصل إلى نتيجة، إذ عندما نريد التعرف إلى أصحاب الحق، علينا أن نتحرّك ونسأل عنهم، ونتحقق في صفاتهم، ومن ثمّ فإن الإنسان لابد أن يحمل مشعلاً يستطيع بواسطته العثور على أهل الحق، وذلك بأن يتحرّك ويسير في‏الأرض كما يحثنا على ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى: {قُلْ سيرُوا في الأرْض فانْظُرُوا كيْف بدأ الْخلْق ثُمّ يُنشئُ ‏النّشْأة الآخرة إنّ اللّه على كُلّ شيْ‏ءٍ قديرٌ}. (سورة العنكبوت، الآية:20) فالقرآن الكريم يبيّن لنا بوضوح أن طريقنا إلى الحق شاقٌ يستدعي التحرّك، والسير، والبحث.
الطاعة للحق لازمة حضارية
وثمة فكرة يطرحها المؤرخون وعلماء الحضارة، وهي أن الحضارات تختلف عن بعضها؛ فهناك حضارات برز فيها الجمال، وأخرى برز فيها القانون، وثالثة؛ العلم أو التقنية، ولكن هذه الحضارات جميعها تشترك مع بعضها في خصوصية واحدة هي‏؛ العقلانية، فأي حضارة لابد أن تبحث عن العقل، وتعمل بالعلم والمعرفة، وتولي لهما الاحترام والتقدير، فمثلاً؛ كان الاغريق القدماء يتمتعون بحضارة راقية تميّزت بتقديس العقل والعلم والعمل ومنهجية التفكير، وكذلك ‏الحال بالنسبة إلى الحضارة الإسلامية في عصورها الذهبية، فقد كانت تتميّز هي الأخرى بالعقلانية والعلمية، ونفس الشي‏ء يمكن أن يقال عن الحضارة الغربية الحديثة. وعندما يأمرنا الإسلام بالحق والطاعة له ولأهله، فإنه في الواقع يرسي الحجر الأساس لبناء الحضارة، والقرآن‏الكريم هو الذي يبيّن لنا برنامج اتباع الحق وطاعته، فعلينا -إذن- أن نولي الاحترام الأكبر لهذا الكتاب العظيم لأننا إذا كنا نمتلك شيئاً من العلم فهو من القرآن الكريم، فكلّما زاد احترامنا له، كلّما اتّسعت واتضحت آفاقه أمامنا، فعلينا أن ‏نصغي له عند تلاوته لأننا في هذه الحالة نتبادل الحديث مع ربنا.

  • تطوير المسؤولية الجماعية

إن الحق قد ينطلق مما يربط بينك وبين الطبيعة، وقد يتصل فيما يربط بينك وبين الناس، وحينئذ يسمّى بالعدل‏. والفرق بين العدل والحق؛ أن الحق أكثر شمولاً، فقد يكون الشي‏ء بينك وبين اللّه تبارك وتعالى حقّاً، ولكن قد لا يكون بالمصطلح الدقيق هو العدل، أمّا الحق الذي بينك وبين الناس فإنه هو الذي يسمى بالعدل‏، وفي هذا المجال يقول تبارك وتعالى: {يآ أيُّها الّذين ءامـنوا كُونُوا قوّامين للّه شُهدآء بالقسط لا يجْرمنكُمْ شنأنُ قوْمٍ على الاّ تعْدلُوا اعْدلُوا هُو أقْربُ للتّقْوى واتّقُوا اللّه إنّ اللّه خبيرٌ بما تعْملُون}. (سورة المائدة، الآية:8). ومـن معالم الحضارة الإسلامية والمدنية الربانية؛ العدالة، فهي تمثل مطلباً يسعى كل إنسان، لاسيما إذا كان الامر يصبّ في ‏مصلحته، لكن؛ هذا لا يعني الدعوة الى العدل لتحقيق مصالح خاصة، انما هي حمل لهذه القيمة الحضارية، وأن يكون الانسان متمثلاً ومتمحضاً بها، وأن يطلب المزيد مـن تجسيد الحق على ارض الواقع بالمعنيين التاليين: 1/ الكثرة الكمّية
بمعنى أن يقوم بالدعوة إلى الحق، وتكريس كل الاوقات لهذه المهمة، وتوجيه الآخرين للعمل في سبيل ‏اللّه والحق. وبالطبع فإن هذه المهمة صعبة للغاية؛ فالأمر بالمعروف، والنهي عن المـنكر يجعلانك في مواجهة الآخرين، ويضطرانك إلى أن تتخذ موقفاً تترتب عليه آثار اجتماعية. 2/ النوعية
ففي بعض الأحيان قد يُطالب الانسان بترك الغيبة، ويطالب آخر باجتناب البهتان، و آخر باداء صلاة الليل، أو بدفع الصدقة، وما إلى ذلك. وفي أحيان أخرى تكون المطالبة بحمل راية العدالة الاجتماعية في مقابل‏ نظام ديكتاتوري، وفي هذه الحالة سنُعدّ قوّامين بالعدل، لأن محاربة الظلم والاستبداد ، لا يمكن أن تتم بمجرد كلمة، وبمجرد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل نحتاج في هذه الحالة إلى أن نصنع حركة حضارية تعمل لفترة طويلة حتى نستطيع ‏إسقاط الديكتاتورية، بأنفسنا، أو نمهد الطريق للأجيال القادمة لأن تقوم بذلك، والذي يقوم بهذه المهمة يطلق عليه اسم “القوّام‏”، كما جاء في قوله تعالى: {يآ أيُّها الّذين ءامـنوا كُونُوا قوّامين للّه شُهدآء بالْقسْط}. وفي هذه الآية إشارة صريحة إلى ضرورة أن يكون القيام للّه؛ أي إن علينا أن نبتعد عن المصالح الشخصية والحزبية والفئوية، وأن نشهد بالقسط، وعندما يكون المجتمع على هذه الشاكلة سيكون مجتمعاً نشيطاً، متحفزاً، يحاول دائماً أن ‏يقتحم الصعاب ويواجه التحديات، فالإنسان المتحضر هو الإنسان الذي يمتلك رغبة في الخوض في الميدان الاجتماعي لأن انحراف أو صلاح الأفراد الآخرين في المجتمع يمثلان مفردة تعنيه.

  • وعي الجماهير يحمي العدل

والقرآن الكريم يمثل كلاماً حقيقياً يتوفّر على معالجة المشاكل بواقعية، و أزمة العدالة هي في عدم تطبيق الإنسان لها، ومشكلة القسط هي عدم الشهود، أي عدم التفاعل الجماهيري، فالظالم عندما يظلم، يبرّر ظلمه للناس، ويحاول أن يقنع نفسه بالظلم وأن يختلق‏ التبريرات لنفسه، ثم يعمل على نشر هذه التبريرات بعد أن يتأكد مـن أن قابلية تقبّل هذه التبريرات موجودة في المجتمع، ويعرف أن هناك أشخاصاً يلوذون بالصمت والسكوت، أما إذا ارتكب الإنسان الظالم، الظلم، وهو يعلم أن المجتمع يتمتع بدرجة من الوعي واليقظة ولا يساوم على الحق، فقبل أن يردعه العقاب الرسمي، تردعه ملامة أفراد المجتمع.
وهناك نقطة أخرى يؤكد عليها القرآن الكريم، وهي؛ أن أكثر الناس يظلمون، ويبررون ظلمهم للآخرين بأن هؤلاء الآخرين يظلمونهم.
ولكي نكرّس العدالة في المجتمع، لابد أن نتحلّى بروحها حتى امام الظالمين، فمن اجل ان نصنع واقعاً حضارياً في امتنا؛ فاننا بحاجة الى العدالة، والعدالة بحاجة الى ان يلتزم الانسان بها حتى في مقابل من يبغضه ويعاديه، وهذا ـ بدوره ـ بحاجة الى القيام لله بشكل متواصل، ومن خلال نوعيّات وكيفيات معينة.
ومن اجل ان نحظى بقيم الحق في المجتمع ليسود العدل والحرية والمساواة، علينا اعادة صياغة التفكير وفق بصائر القرآن الكريم وما يبينه لنا من توجيهات تحدد مسؤولية الانسان، الفرد، كما تبين مسؤولية المجتمع ايضاً في هذا الاتجاه.

عن المؤلف

اترك تعليقا