ثقافة رسالية

هل يمكن أن تسقط حضارة في يوم من الايام؟

لا تسقط الامم إلا بأيدي أبنائها ورجالها، وإن كان للعوامل الخارجية تأثيرٌ في هذا السقوط إلا أن التأثير الأكبر هو للعوامل الداخلية، فتصرفات أبنائها هو ما يؤدي الى سقوطها ولذلك يمكن القول: إن الحضارات تسقط وتنتهي انتحارا، ولا تموت بشكل طبيعي.

الأمم تنتصر أو تنهزم، والحضارات تقوم أو تبيد كل ذلك بفعل العوامل الداخلية، وليست العوامل الخارجية إلا مكلمة للعوامل الداخلية، فمثلا عندما تمتلك الحضارة قابلية النمو فهي تستفيد من نقاط قوتها الداخلية، وتساعدها العوامل الخارجية، فتنمو وتزدهر، بينما الحضارة القابلة للسقوط تتجمع نقاط ضعفها الداخلية وتكون سببا لهزيمتها كما نرى ذلك في الأفراد، فعندما يكون هنالك شخص يقبل بالذل فإنه يكون ذليلا، كذلك الأمة التي تقبل بالذل تكون ذليلة، وهذا ما نشاهده في الأمم التي تخضع للاستعمار والاحتلال ومن ثم تذل وتحتل.

 

الله تعالى لا يهلك الأمم ظلما وعدوانا، ما دامت هي صالحة في نفسها، ومصلحة لغيرها، وإنما تهلكها أعمالها وتصرفاتها، وسوء عاداتها وتقاليدها، فمن يدرس التاريخ ويدقق في أسباب سقوط الحضارات السابقة يلاحظ وبشكل جلي الدور الكبير لأبناء كل حضارة في سقوط حضارتهم

 

غير أن انتحار الامم هو في الأغلب تدريجي وبطيء، ويأتي نتجية التخلي عن القيم الإنسانية، والمُثل العليا، ومن ثم السقوط في وادي الاستبداد والظلم والفساد، وانتحارها في ذلك يشبه الإنسان الذي أهمل صحته، فلربما مات بسبب اهماله لصحته إلا أن هذا الموت لا يكون نتيجة لإهمال صغير، وإنما عن طريق عدم الالتزام بقواعد الصحة والسلامة، واعتماد عادات سيئة في التغذية والعمل والراحة وغير ذلك لفترة من الزمن.

يقول القرآن الكريم: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}.

فالله تعالى لا يهلك الأمم ظلما وعدوانا، ما دامت هي صالحة في نفسها، ومصلحة لغيرها، وإنما تهلكها أعمالها وتصرفاتها، وسوء عاداتها وتقاليدها، فمن يدرس التاريخ ويدقق في أسباب سقوط الحضارات السابقة يلاحظ وبشكل جلي الدور الكبير لأبناء كل حضارة في سقوط حضارتهم، وبذلك فهي تنتحر انتحارا ولا تموت موتا طبيعيا.

كل ذلك يعني أن الحضارات الكبيرة تحمل في طياتها أسباب زوالها، ومن ثم فإن الحضارات تنحدر من تلقاء نفسها نحو الانهيار، وإن كانت العوامل الخارجية تسهم احيانا في سقوطها، فمثلا انهارت الامبراطورية الرومانية تحت وطأة التوسع الاستعماري المفرط، والتغير المناخي، والتدهور البيئي وضعف القيادة.

ولكن اجتياح القوطيين الغربيين لروما عام 1410 م، ومن بعدهم القنداليون عام 1455م، كانت بمثابة الضربة القاضية التي عجلت بنهايتها، فالحضارة مثل شجرة، إن كانت قد مدت جذورها في الارض، وكانت قوية في سيقانها فمن الصعب أن تقتلعها الرياح العاتية، ولكن حينما تكون ضعيفة في داخلها وخاوية، فإن أقل هبوب للرياح يؤدي الى سقوطها.

“ولا توجد حضارة على وجه الأرض محصنة من الانهيار، مهما بلغت عظمتها، فقد وصلت مساحة الامبراطورية الرومانية عام 390م الى 4,4 مليون كليو متر مربع، ثم تقلصت مساحتها بعد خمس سنوات الى مليوني كيلو متر مربع، وفي عام 476، لم يعد لنفوذها وجود”. ( ليوك كيمب؛هل نحن في طريقن الى انهيار حضاري؟).

والسؤال هنا هو: هل ما قاله المؤرخ (أرنولد تونيبي) في كتابه ( دراسة التاريخ) الذي يحلّل فيه عوامل نمو ثمانية وعشرين حضارة، وأسباب انهيارها، هل كان الرجل محقا حينما قال: “إن الحضارات العظيمة تحمل في طياتها أسباب زوالها”؟

الجواب على ذلك: يمكن القول إن العوامل الداخلية لها تأثير كبير ومهم في انهيار الحضارات، فأصحاب كل حضارة يساهمون بشكل أو بآخر في المحافظة على حضارتهم، أو الاسراع في انهيارها. يقول الله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} وقال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}.

ولكن كما أنه للعوامل الداخلية تأثير كبير، فإن ذلك لا يغلي دور العوامل الخارجية في انهيار الامم، ويمكن القول إن العوامل الداخلية هي الأساس في السقوط، وما الخارجية إلا مكملة لها.

فالآيتين السابقتين تشيران الى أن العوامل الداخلية لها الأثر في انهيار القرى أو بقائها، وبالتالي فإن العذاب ـ وهو أمر خارجي ـ إذا نزل يكون نتيجة للعوامل الداخلية: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}.

———————————————-

  • مقتبس من كتاب أصول الحضارة للسيد هادي المدرسي.

عن المؤلف

آية الله السيد هادي المدرسي

اترك تعليقا