ثقافة رسالية

عَاشُورَاءُ صَرْخَةُ إِصلَاحٍ سِيَاسِي وَمَنهَجُ بِنَاءٍ لِلأُمَّة (2)

  • مقدمة

يذهب البعض ممَّن يحاول أن يفهم المسيرة الحسينية المباركة، ويعطي رؤية علمية لأسبابها ودوافعها ودواعيها من وجهة نظر سياسية بحتة ويحاول أن يُظهر بأن الإمام الحسين (ع) كان طالب حكم ومنصب وسلطة، فيكون كغيره من الثوار الفاشلين – والعياذ بالله – في تقدير الظروف والأسباب وكل ما يجب على القائد فعله في سبيل تحريك الجماهير، ثم قيادتهم لتحقيق أهدافه بالوصول إلى كرسي الحكم والتمتع بالسلطة، ويوصل أتباعه وأنصاره إلى أهدافهم والمصالح التي يتطلعون إليها.

وهذه النظرة الضيقة كثيراً من العلماء الأعلام قد فندوها وصححوا مسيرتها ووضعوها في نصابها الصحيح وفي طريقها الذي سارت فيه منذ اللحظة الأولى لانطلاقتها في المدينة المنورة في قصر الأمارة وأمام الوالي الوليد حيث أعلنها الإمام الحسين، عليه السلام، قائلاً: “أَیُّهَا الأَمیرُ! إِنّا أَهْلُ بَیْتِ النَّبُوَّةِ وَمَعْدِنُ الرِّسالَةِ وَمُخْتَلَفُ الْمَلائِکَةِ وَمَحَلُّ الرَّحْمَةِ وَبِنا فَتَحَ اللّهُ وَبِنا خَتَمَ، وَیَزیدُ رَجُلٌ فاسِقٌ شارِبُ خَمْر قاتِلُ النَّفْسِ المحَرَّمَةِ مُعْلِنٌ بِالْفِسْقِ، وَمِثْلی لا یُبایِعُ لِمِثْلِهِ، وَلکِنْ نُصْبِحُ وَتُصْبِحُونَ وَنَنْتَظِرُ وَتَنْتَظِرُونَ أَیُّنَا أَحَقُّ بِالْخِلافَةِ وَالْبَیْعَةِ”.

⭐ لقد وقف الإمام الحسين، عليه السلام، بشموخ وعظمة أمام إرادة النظام الجائر وزرع في الأمة ثقافة الكرامة والدفاع عن المقدسات

إنها صرخة مدوية أطلقها السبط الشهيد وأعطى بها معايير للحاكم الصالح، وأن الحاكم الفاسق الفاسد لا يمكن أن يكون له شرعية في السلطة مهما كان يمتلك من القوة والسطوة، فالحكم الرشيد في الدِّين الإسلامي منطقه قوي وشرعيته من الله تعالى يستمدها، وأما السلطان الذي يتحدث بمنطق القوة والغلبة فلا سلطة ولا شرعية له في التسلط على الناس وحكمهم بالحديد والنار.

فالحاكم بالأصالة هو الله، والحكم الإلهي لا يكون إلا باسم الله: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ} (الأنعام: 57).

وقد تكررت هذه الكلمات النورانية ثلاث مرات في القرآن الحكيم، للتأكيد على أن مسألة الحكم هي لله تعالى، ولا شرعية لحاكم إذا لم يكن مأذوناً منه تعالى، وعند ذلك يكون طاغوتاً يحكم بغير ما أنزل الله تعالى وهو لا يخرج من أحد ثلاثة كما في آيات سورة المائدة المباركة في قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}. و{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}. وقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}.

فالحاكم الذي لا يملك الإذن للحكم من الله تعالى وبالتالي لا شرعية له في التسلط على رقاب الناس ويكون مؤتمناً على الأنفس والأعراض والأموال، فهو إما كافراً، أو فاسقاً، أو ظالماً، وهذا يسقط من الاعتبار ويزيد الشَّر كان يحمل كل تلك الصفات مجتمعة ويزيد عليها بالإجرام بجرأته على سفك الدَّم الحرام وقتل الناس دون بيِّنة، وركوب كل أنواع الفسق والفجور ويتجاهر بذلك فكيف يكون حالكماً لأمة العدل والقسط.

  •  عاشوراء صرخة إصلاح سياسية

وهذا ما تناوله جناب الدكتور الراشد في الفصل الثاني من كتابه الراقي، التي تناول فيه هذه المسألة بالتفصيل حيث رأى أن قضية عاشوراء وقيام الإمام الحسين، عليه السلام، كانت ضرورة حضارية بسبب ما تعرَّض له الدِّين الإلهي من التحريف والتزييف على يدي بني أمية الذين أرادوها وراثية يتلاعبون بها كالكرة كما قال لهم كبيرهم أبو سفيان الذي علَّمهم الكفر والفسوق والعصيان.

يقول الدكتور الباحث: “لقد وقف الإمام الحسين، عليه السلام، بشموخ وعظمة أمام إرادة النظام الجائر وزرع في الأمة ثقافة الكرامة والدفاع عن المقدسات، وهي التي تقض اليوم مضاجع الأنظمة الدكتاتورية المستبدة المتعاقبة التي فرضت على المجتمع إرادتها وقوانينها بمنطق القوة والاستكبار وغلبة السيف، وقد استطاعت بفعل ما ارتكبته من جرائم متوحشة بحق الأمة من إبعاد كثيرين من أبنائها عن قيم السماء ومبادئ الكرامة الإنسانية”.

 المشكلة الكبرى التي وقعت بها الأمة الإسلامية من جراء تسلط أولئك الأشقياء عليها هو محاولة إخراجها من دين الله أفواجاً بعد أن دخلت فيه بقوة الروح، والفكر الحق والأخلاق الراقية للرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله، وأهل بيته الهداة الميامين، الذين كان خلقهم القرآن ومسيرتهم الهدى والرشد وطريقتهم الصواب ومنطقهم الصدق والحق والعدل وأين ذلك كله من الحكم الأموي الذي رفع شعاره طاغيتهم معاوية بن هند الهنود آكلة الكبود بقوله: “لا والله إلا دفناً دفنا” للدِّين الإسلامي وذكر ابن أبي كبشة – الرسول الأكرم – كما يظن ويسعى بالباطل طيلة حكمه الفاسد والمفسد الذي طال لأربعة عقود ثم أوصلها لدعيَّه الشرير يزيد الذي ليس فيه صفة واحدة من صفاة القائد الإسلامي.

⭐ عاشوراء هي صرخة حسينية حقيقية وواقعية في الإصلاح السياسي، وهي منهج قويم وحقيقي في بناء الأمة الإسلامية بناء سليماً

ولذا يقول الباحث الراشد: “فكانت حركة – الإمام الحسين، عليه السلام – حركة صارخة في مواجهة الظلم والاضطهاد والفساد ضد الأنظمة السياسية الحاكمة، التي تستفيد من ظلمها في فرض الأمر الواقع بالقهر والغلبة.. وتمثل قضية عاشوراء الحسين، عليه السلام، أنموذجاً وعلامة فارقة في تاريخنا الإنساني يمكن أن يهتدي بها كل الأحرار والشرفاء في العالم، بدلا عن الاستسلام المهين والمذل لإرادة الطغم الفاسدة التي تستولي على الحكم ومقدرات الأمور في المجتمع دون وجه حق أو دون شرعية”؟

  • الخلاف ليس سياسياً بحتاً

فالخلاف بين الإمام الحسين، عليه السلام، وسلطان بني أمية ليس خلافاً على الحكم والسلطة كما يحاول أن يصوِّره بعض المغرضين وتنطلي كلماته وإشكالاته على بعض الموالين للأسف الشديد بل المسألة أكبر من ذلك بكثير هي التي أبانها وأوضحها الإمام الصَّادق، عليه السلام، شخصياً حين سئل عن هذه المسألة بالخصوص فقال: (إنا وآل أبي سفيان أهل بيتين تعادينا في الله، قلنا: صدق الله، وقالوا: كذب الله). (معاني الأخبار).

القضية ليست بالكرسي والسياسية فهؤلاء الخلافة محرمة عليهم بنصِّ من رسول الله، صلى الله عليه وآله، يرويه مباشرة الإمام الحسين، عليه السلام، سماعاً من جده المصطفى، صلى الله عليه وآله حيث قال: سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: “الخلافة محرمة على آل أبي سفيان وعلى الطلقاء أبناء الطلقاء، فإذا رأيتم معاوية على منبري فافقروا بطنه” فو الله لقد رآه أهل المدينة على منبر جدي فلم يفعلوا ما أمروا به، قاتلهم الله بابنه يزيد! زاده الله في النار عذاباً). (الفتوح لابن الأعثم: ج5 ص17).

وهذا ما يبينه الباحث الدكتور الراشد بقوله: “لم تكن قضية الإمام الحسين، عليه السلام، في عاشوراء مجرد خلاف سياسي بين معارض وحاكم اختلفت مصالحهم السياسية على حصص المنافع الشخصية أو معركة من أجل إثبات وجهات النظر الشخصية وإنما قضية عاشوراء الحسين، عليه السلام، تمثل منهجاً ورؤية واضحة في الدفاع عن المقدسات التي تعرَّضت للتدنيس والإهانة والتخريب”.

المسألة مسألة دين ورسالة رب العالمين ومنهج قويم في الإصلاح السياسي والاجتماعي والقيمي في الأمة الإسلامية ومنهج جاهلي بكل معنى الكلمة جاء به معاوية وأوصى أن يمضي في تنفيذه ولده الشقي يزيد الشر، ولذا كان يصرِّح في بعض كلماته: “أن هذه وصية الشيخ”، ويعني معاوية، وكان ينقلها له السِّر جون المستشار الرومي لمعاوية وأمين سرِّه وصلته بينه وبين هرقل الروم في ذلك العصر.

ويقول الدكتور الراشد: “لقد كانت الأمة والإنسانية تحتاجان قامة كالإمام الحسين، عليه السلام، ليعطيها الشرعية في مقاومة الظالم وفساده، فقد فتحت قضية عاشوراء باب شرعية مجابهة الطغاة والمتجبرين بشكل واسع حيث قضت على جميع الأعذار التي يسوِّقها البعض لتبرير التخاذل والتقاعس، أو الخوف من سيف السلطة وجبروتها، يقول جورج جرداق العالم والأديب المسيحي: “حينما جنَّد يزيد الناس لقتل الحسين وإراقة الدماء كانوا يقولون: كم تدفع لنا من المال؟ أما أنصار الحسين فكانوا يقولون: لو أننا قتلنا سبعين مرة فإننا على استعداد لأن نقاتل بين يديك ونقتل مرة أخرى أيضاً”.

ثم يقول: “لقد كان أهم إنجاز حققته عاشوراء هو وضع خط فاصل بين زمنين، ومن السكوت عن فساد الحاكم والنظام السياسي تحت مظلة وجوب طاعة أولي الأمر، وزمن آخر اختطته عاشوراء بدماء ابن بنت نبي الأمة محمد عبد الله، صلى الله عليه وآله، وهو شرعية مجابهة الحاكم الظالم والفاسد والوقوف بوجه النظام السياسي إذا كان مرتعاً للفاسدين والظالمين، يقول تاملاس توندون، الهندوسي، والرئيس السابق للمؤتمر الوطني الهندي: (هذه التضحيات الكبرى من قبيل شهادة الإمام الحسين، عليه السلام، رفعت من مستوى الفكر البشري، وخليق بهذه الذكرى أن تبقى الى الأبد، وتذكر على الدوام.

هذه المنهضة التي رأى الإمام، عليه السلام، بأنها الطريق الأمثل لتحقيق الغاية الأكمل من قضية عاشوراء، وهي تصحيح الانحراف الذي ابتلت به الأمة حينما خذلت رسول الله ، صلى الله عليه وآله، بسكوتها وخنوعها وانجرارها بقبول الظالم حاكما ومتولياً لأمرها، فقد أوضح الإمام الحسين، عليه السلام، ذلك في قوله: (على الإسلام السلام إذ قد بليت الأمة براع مثل يزيد). (الفتوح لابن الأعثم: ج5 ص17).

عاشوراء هي صرخة حسينية حقيقية وواقعية في الإصلاح السياسي، وهي منهج قويم وحقيقي في بناء الأمة الإسلامية بناء سليماً، وصحيحاً كما أراده الله تعالى وجاء به رسوله الكريم، صلى الله عليه وآله، وعمل في سبيل تحقيقه وتطبيقه الإمام الحسين العظيم سيد الشهداء بثورته ونهضته الإنسانية المباركة.

وهناك الكثير من التفاصيل تناولها جناب الدكتور الراشد في بحثه الشيِّق، وكم أتمنى للأخوة الكرام أن يطالعوها ويستفيدوا منها في مسألة الإصلاح السياسي والبناء الاجتماعي للأمة لأنه الخبير في ذلك كله.

والسلام على مَنْ علَّم الدنيا معنى السَّلام المشرِّف، وصدق الكلام بالمواقف، السبط الشهيد وعلى كل الشهداء الذين ساروا بركبه وتعلموا منه وانتهجوا وساروا بنهجه الرباني القويم.. وعظم الله أجركم يا موالين.

عن المؤلف

الحسين أحمد كريمو

اترك تعليقا