ثقافة رسالية

نهج البلاغة والحياة (15) هضم الحقوق واختلال العلاقات الاجتماعية

يقول أمير المؤمنين، عليه السلام: “لنا حق فإن اعطيناه والا ركبنا أعجاز الإبل وان طال السرى”.

هذه الأرض خلقها الله للإنسان قبل أن يخلقه، وقدّر فيها قوت لكل إنسان زيادةً عن حاجته، وقدّر له مساحة أكثر مما يحتاجه، وخلق في هذه الأرض طعام الإنسان بما يزيد عن مقدار حاجته، إلا أننا نرى أن أناس يموتون من الجوع، وآخرون يَحرقون القمح، ونرى أناس لا يمتلكون دارا، وآخرون يمتلكون عدة دور.

لو ان كلما في البحار واليابسة تُستغل بشكل عادل لما كان في كل عام يموت ملايين الناس من الجوع، ولما كان هناك عالَم أول، وثانٍ، وثالث، ورابع، ولما كنا نرى أناسا يموتون من الجوع وآخرون يموتون من التخمة، ولما كنا نرى أن اموالا تكدّس في صناديق حديدة، وراء جدر اسمنتية، وخلف الجدار رجل يتسوّل، والفاصل بينه وبين الملايين جدار من الاسمنت والحديد!

  • أين المشكلة؟

المشكلة أن الحق لا يُعطى لصاحبه، لان من الحق أن يحصل كلَّ واحد على قوته، لكل كبد حرى حق في الإرتواء، ولكل معدة تجوع حق في الطعام، هذا من الناحية المادية؛ من حيث الطعام والشراب والمأوى.

وأما من ناحية العلاقات بين الناس؛ للجميع حق في الحرية، وفي الكرامة يقول ـ تعالى ـ: {ولَقَد كَرمْنَا بَنِي آدمَ}، الله خلق الإنسان كريما، وحرّم قتله، ومنع حرمانه من الحقوق، وفي الاسلام حتى الجنين له حق، فلا يجوز للأم ان تُسقط جنينها وهو في رحمها، ولا يحق لأب أن يقضي على ولده، بل ولا يحق لإنسان حي أن يقطع رأس إنسان ميّت، ومن أقدم على هذا الفعل، فعليه دية حددها الشارع المقدس، لان من قام بهذا الفعل أهان كرامة غيره من بني جنسه، بالإضافة لذلك فإن هناك حرمة بعدم نبش قبر الميت، او التمثيل به.

حينما تُهضم الحقوق تختل المعادلة، وعلى إثر ذلك تنشب الحروب والمشاكل بين الناس، فقبل أن يخلق الله الإنسان خلق له الأرض، وقبل أن يأتي الى هذه الدنيا عيّن الباري ـ تعالى ـ له حقوقا منذ الولاة الى ما بعد الوفاة.

📌 لو ان كلما في البحار واليابسة تُستغل بشكل عادل لما كان في كل عام يموت ملايين الناس من الجوع، ولما كان هناك عالَم أول، وثانٍ، وثالث

لكن هناك من يُهضم حقه لأحد سببين؛ إما لكسله وتقاعسه، وإما لسبب قوة تفرض عليه التنازل عن الحق، والصور التي يمكن تصورها عن التنازل عن الحق ثلاث:

 الأولى: التنازل من القوي للضعيف، وهذا هو العفو المطلوب؛ فقريش حاربت رسول الله، صلى الله عليه وآله، وقتلت خيرة أصحابه، وشنّت عليه الحروب والغزوات، وحينما فتح رسول الله، مكة قال لكبار قريش: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”. وذلك كان كرما منه، وكان بإمكانه أن يأخذ حقه منهم، لكنه عفى عنهم.

الثانية:  التنازل من الضعيف للقوي؛ وهذا حرام، لانه استسلام واستضعاف، {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً}، فالله حينما يحرّم أن يستضعف إنسانٌ إنسانا آخر، يحرمه من الطرفين؛ من طرف المستضعِف، ومن طرف المستضعَف، فهو ـ تعالى ـ يحرم أن يقبل الإنسان الظلم قبل أن يمارسه، (لا تكن ظالما أو مظلوما)، بل الواقع يثبت أن الإنسان لا يكون مظلوما إلا بعد أن يصبح ظالما.

المجتمع الذي تكون ثقافته “لنا حق فإن اعطيناه والا ركبنا أعجاز الإبل وان طال السرى”، هذا المجتمع لا يوجد فيه آكل ومـأكول، وظالم ومظلوم.

📌 المجتمع الذي تكون ثقافته “لنا حق فإن اعطيناه والا ركبنا أعجاز الإبل وان طال السرى”، هذا المجتمع لا يوجد فيه آكل ومـأكول، وظالم ومظلوم.

إذا كان من حق كل إنسان أن يعيش حراً، فإن من واجبه الحصول على الحرية، وإذا كان يريد أن يعيش كريما، فإن من واجبه الحفاظ على الكرامة، وان يحصل عليها، ولا يجوز له ان يتنازل عنها.

الثالثة: تنازل المؤمن لأخيه المؤمن، قد يكون ذلك في جدالات بسيطة، أو على أمور تافهة، والتنازل في هذه الحالة إحسانٌ وتفضّل، وهو مطلوب في المجتمع الإسلامي، لكن البعض يقوم بخلاف ذلك فتراه  يستأسد على إخوانه المؤمنين؛ فالمشتري يريد أن يأخذ حقه من المشتري وبزيادة، وكذلك يفعل البائع، فإن هذا العمل يؤدي بالمؤمنين في المجتمع الاسلامي الى المشاطرة، وهذا أمر غير مطلوب بين المؤمنين.

عن المؤلف

هيأة التحرير

اترك تعليقا