أسوة حسنة

من قتل الزهراء ؟1-2

لم تكن المدينة كما كانت، فلم يعد صوت بلال على المآذن، وقد غاب ذلك الوجه الذي كان يشرق لأهل المدينة في كل يوم.
الدار التي كانت محل وحي الله، ومحل أُنس رسول الله ص والتي ..

كل شيء قد تغير!
الباب التي كان النبي يأنس بها أغلقت.
لم تكن المدينة كما كانت، فلم يعد صوت بلال على المآذن، وقد غاب ذلك الوجه الذي كان يشرق لأهل المدينة في كل يوم.
الدار التي كانت محل وحي الله، ومحل أُنس رسول الله ص والتي كان يسمع منها صوت القرآن والمناجاة مع الرب، أصبح لا يسمع منها سوى الأنين والبكاء:

ماذا على من شمَّ تربة أحمدٍ * أن لا يشمَّ مدى الزمان غوالي
صُبَّتْ عَليَّ مصائبٌ لو أنها * صُبَّتْ على الأيام عُدْنَ ليالي.

مجالس العزاء كانت تتوالى، فتارة يسمع الناس صوت البكاء من منبر رسول الله، وأخرى من بيتها، وثالثة من البقيع، وفي كل خميس واثنين من عند قبر عمّها حمزة سيد الشهداء.
المدينة تسمع البكاء صباحاً ومساءاً ولكن لماذا تبكي الزهراء؟
هل هي مجرد عاطفة البنت لفقد أبيها؟
هل كانت لما تستشعره من غربة ووحدة بعد أبيها وهي التي تقيم العزاء على رسول الله ص لوحدها؟
وإذا كان الأمر كذلك فلماذا منعوها من البكاء؟
حتى أنهم جعلوا الأحاديث كذبا وزورا على رسول الله ص من أنه قال ـ كما في حديث عائشة ـ في مرضه الذي لم يقم منه: “لعن الله اليهود والنصارى اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد” قالت: فلولا ذاك أُبْرِزَ قبرُه، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً!
فلعل لبكائها سر أعظم؟

  • الجهل الجمعي وثقافة القطيع

للإجابة على هذا السؤال المهم والذي له علاقة متينة بما نعيشه من واقعنا المرير، لابد لنا من تمهيد.
تصور لو أن قطيعاً من أحدهم حرك قطيعاً من الثيران يبلغ عددهم الألف باتجاه يؤدي بهم الى الهاوية، هل يمكنك الوقوف في طريقهم؟ هل يمكنك إقناعهم بأنهم يسيرون بالاتجاه الخطأ؟
كلا بالطبع! إنك عندها على أفضل الأحوال ـ إن بقيت على قيد الحياة ـ ستعيش مدى الحياة مقعداً!
إنه ما يعرف في العلم الحديث بـ”الأثر الإجتماعي المعلوماتي”، ليس بالضرورة أن يكون القطيع من البقر، بل يمكن أن يكونوا من البشر، فالنتيجة واحدة، ولذا فإن اغلب من يواجه هذا القطيع سوف يحاول أن يتأقلم معه بصورة أو بأخرى.
نعم؛ منطلقات التأقلم مع الأثر الاجتماعي المعلوماتي أو ما يعبر عنه بـ”العقل الجمعي” ليست سواء، فقد تكون المنطلقات مختلفة لكن النتيجة واحدة.

  • المنطلق الأول: التأقلم لدفع الضرر

فالبعض يرى أن التلون بلون الجماعة هو أسلم طريق ليأمن شرهم، وقد شاعت بعض الأمثال في بعض الشعوب التي تكشف عن هذا المنطلق في التعاطي مع العقل الجمعي، يقول: إذا أردت أن لا تفتضح فتلون بلون الأغلبية، فالتأقلم يوفر شعوراً بالأمان والقوة.
المنطلق الثاني: التأقلم لنشوة الانتصار
البعض الآخر ليست لديه دوافع مختلفة عن دوافع الجمع، لكنه يرى أنَّ موافقتهم تكون ذات نفع بالنسبة إليه، وأبرز مثال على ذلك ما نجده في الانتخابات، فيريد أن يكون مع الغالب ليس بالضرورة أن ينال منه شيء، لكنه يشعر بالانتفاع حين يرى بأن الحزب الذي اختاره أو المرشح الذي اختاره قد ربح.
ومثل ذلك نجده في تشجيع الأندية الرياضية الناجحة، فهو مستعد للتبرع للنادي الذي يحقق الفوز احياناً، والدفاع عنه ليس إلا لما يشعره النادي من نشوة الانتصار.
وقد يعبّر عنه أيضا بانعدام الإحساس بالمسؤولية الفردية، فإن الخسارة لو وقعت فإنها ستقع على الجميع وبالتالي لن يكون مسؤولا عن ذلك.
المنطلق الثالث: تأقلم السطحية
الكثير ممن يتبع القطيع مستعد لتغير اتجاهه 180 درجة لو غير القطيع اتجاهه، ليس لدفع الضرر عن نفسه، ولا لكي يشعر بنشوة الانتصار، بل لأنه يفترض أن الأكثرية تمتلك الرأي الصحيح.
وهو الغالب الذي ينتج إما عن الكسل الفكري أو عن تتابع المعلومات التي لا تتيح للفرد فرصة التقييم، فبدل أن يفكر يريح نفسه ويتبنى ما تتبناه الجماعة.

  • تأثير العقل الجمعي في المجتمعات

والقرآن الكريم يروي لنا هيمنة العقل الجمعي على الأمم السابقة، عند تعاملها مع الأنبياء والرسل، قال تعالى:{قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا}، { قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}.
وبالرغم من أن البعض تصور أنماطاً إيجابية لهذه الظاهرة، إلا ان آثارها السلبية بدت أوضح مع ثورة المعلومات، حيث بدت الأمور تصبح ذات قوالب جاهزة بحيث صار غيرها مرفوضاً، وصارت المؤسسات التجارية الكبرى تستخدم هذه الظاهرة من أجل تسويق منتجات ربما لم يكن البشر يفكر فيها يوما ما.
فعلى سبيل المثال، لم يكن للجمال معايير خاصة، بل كانت المعايير مختلفة عند الشعوب، بل حتى بمستوى القرى، ولذا فإن قبول الولد بالبنت وكذا العكس كان يتم بكل سلاسة، بل في كثير من الأحيان كانت العوائل هي التي تختار لهما الزواج من دون أن يرى الواحد الآخر.
لكننا اليوم نجد أنَّ العالم وضع معايير خاصة للجمال، وتكلف هذه المعايير الذكور والإناث مليارات الدولارات من عمليات التجميل، والمستحضرات التجميلية، ومعدات وأدوات التنحيف وما شاكل كل ذلك من أجل الوصول إلى تلك المعايير لكي تكون هناك مقبولية من قبل الطرف الآخر، وهذا ما يعبر عنه بـ”القولبة النمطية”، حيث يفقد الفرد قدرته على التمييز وفق معاييره، بل يسلّم المعايير بيد الغير تماما.

  • إدارة الجهل الجمعي

الآن؛ لك أن تتصور خطر هذا الأمر لو أن أحدهم استطاع أن يؤثر في ذلك، حيث لم يعد الشخص يتلقى الأمر من محيطه الذي يعيش فيه، فالمحيط حتى لو كان سيء جداً لكن يبقى فيه محددات تحده، لكن ماذا لو صار هنالك من يقف خلف الكواليس ويدير دفة الأمور.
من الأمثلة التاريخية الواضحة في ذلك ما حدث في دولة بني امية.
الإمام علي بن أبي طالب، عليه السلام، أول من آمن بالنبي، صلى الله عيله وآله، والذي هاجر الهجرتَين، وقاتل ببدر وحنين، وابو السبطين، وزوج ام الحسنين، اخو رسول الله ، وابن عمه، يُلعن ويسب على سبعين ألف منبر لثمانين عام.!
كيف حصل ذلك؟
لا عجب في ذلك، إنه نتاج ما يُعبر عنه بالعقل الجمعي الذي نشاهده اليوم عبر وسائل التقاطع (التواصل الاجتماعي)، إنه ما نشاهده من تحريك الناس كالقطيع بالاتجاه الذي يريدون.
والقضية عميقة جداً؛ فالمنطلقات الثلاث تعد منطلقاً داخلياً، أي أنه لا أحد يجبرك على التحرك، فأنت تتحرك بمحض إرادتك ولا يوجد هناك اي أكراه ولذا فمن الصعب أن تتصور أنك ألعوبة بيد الآخرين.
أنت تتظاهر بمحض إرادتك من أجل قضية عادلة، وتطالب بحقوق الشعب المسلوبة من قبل السراق، لكنك لا تشعر أن الشعار الذي ترفعه، والتوقيت الذي خرجت فيه، والطريق الذي تسير فيه كله لم تختاره أنت، بل قد اختير لك.!
و أعظم الفجائع وأكبر الكوارث قد تُرتكب بهذه الطريقة، كما شاهدنا ذلك في حادثة ساحة الوثبة بالعاصمة بغداد، وقتل ذلك الصبي المظلوم بتلك الطريقة البشعة.
هذه الحادثة يجب أن نجعلها منهجاً في كتبنا الدراسية، ومثلها حادثة محاولة حرق مساجد الله، ومثلها حادثة ضرب بعض الزوار وبعض الأبرياء في ساحات التظاهر، القضية ليست فقط في جهل من يقوم بالأمر، فربما يتبين لاحقاً أنه كان طبيباً أو مهندساً أو محاميا، بل المشكلة في فقدان القدرة على تمييز المعاير لدى البعض.

  • جهلة الأعراب تحرق بيت النبي

ومن هنا فلا عجب أن نسمع بأن باب بيت فاطمة، عليها السلام، يُحرق! ولا نعجب أن نرى جهلة الأعراب يجتمعون لقتل بضعة النبي، صلى الله عليه وآله، وفي زيارة جامعة أئمة المؤمنين نقرأ وصف هؤلاء: “فَحُشِرَ سِفْلَةُ الْأَعْرَابِ، وَ بَقَايَا الْأَحْزَابِ، إِلَى دَارِ النُّبُوَّةِ وَ الرِّسَالَةِ، وَ مَهْبِطِ الْوَحْيِ وَ الْمَلَائِكَةِ، وَ مُسْتَقَرِّ سُلْطَانِ الْوَلَايَةِ، وَ مَعْدِنِ الْوَصِيَّةِ وَ الْخِلَافَةِ وَ الْإِمَامَةِ، حَتَّى نَقَضُوا عَهْدَ الْمُصْطَفَى، فِي أَخِيهِ عَلَمِ الْهُدَى، وَ الْمُبَيِّنِ طَرِيقَ النَّجَاةِ مِنْ طُرُقِ الرَّدَى وَجَرَحُوا كَبِدَ خَيْرِ الْوَرَى، فِي ظُلْمِ ابْنَتِهِ، وَ اضْطِهَادِ حَبِيبَتِهِ، وَ اهْتِضَامِ عَزِيزَتِهِ، وَ بَضْعَةِ لَحْمِهِ، وَ فِلْذَةِ كَبِدِهِ”.
فهل ينفع الاحتجاج مع هؤلاء؟ وهل ينفع المنطق والمحاضرات؟ وهل ينفع مع قوم تطرق الباب عليهم واحداً بعد واحد بنت رسول الله ص ومعها سبطي رسول الله ص تذكرهم ببيعة الغدير فيقولون: قد سبقت بيعتنا لأبي بكر.!

  • بكاء المواجهة

لذلك عمدت ابنة رسول الله، صلى الله عليه وآله، على إثارة العواطف، التي أماتها القوم، فصارت تبكي أباها ليلاً ونهاراً، الوضع لم يكن طبيعياً الحزب القرشي بعد بيعة أبي بكر جعلوا السقيفة مركز نشاطهم، بعد أن أهانوا سعد بن عبادة المريض، فحمله أولاده إلى بيته، وتركوا لهم السقيفة.!
وبعد الهجوم على بيت علي وفاطمة،عليهما السلام، جعلوا مسجد النبي مركزهم، واتّخذوا إجراءات مشدّدة في المسجد وحول القبر النبوي الشريف، شبيهاً بالأحكام العرفيّة، ومنعوا إقامة مجالس العزاء، ومطلق التجمّع عند قبر النبي ص حتى اخترعوا حديثا آخر بأنه قال: “لا تتّخذوا قبري عيداً أو وثناً” 3، ليمنع من قصد قبر رسول الله إلا في أوقات معينة.
ولم يكتفي القوم بذلك، حتى منعوا عن البكاء بحديث مجعول آخر بأن النبي نهى عن البكاء على الميت “وإن الميّت يعذب ببكاء أهله عليه”، وقد جهل هؤلاء أنَّ النبي أمر بالبكاء على عمه حمزة حين قال: “ولكن حمزة لا بواكي له؟” 4.
وحين رأوا أن فاطمة لا تكف عن البكاء، وصوت بكائها يملأ المدينة حزناً، ويجيش العواطف ضدهم، ارسلوا شيوخ أهل المدينة فقالو لعلي: يا أبا الحسن إنّ فاطمة تبكي الليل والنهار فلا أحد منّا يتهنّا بالنوم في الليل على فرشنا، ولا بالنهار لنا قرار على أشغالنا وطلب معايشنا، وإنّا نخبرك أن تسألها إمّا أن تبكي ليلاً أو نهاراً.
فقال لها أمير المؤمنين ع إنَّ القوم يسالونك ذلك فقالت: “يا أبا الحسن ما أقلّ مكثي بينهم وما أقرب مغيبي من بين أظهرهم، فو الله لا أسكت ليلاً ولا نهاراً، أو ألحق بأبي رسول الله”!
فقال لها: “إفعلي يا بنت رسول الله ما بدا لك”.
فكانت تخرج إلى البقيع في لمة من النساء وتبكي تحت ظل أراكة هناك، فعمدوا الى قطعها فبنى لها أمير المؤمنين ع بيت الأحزان في البقيع فكانت إذا أصبحت قدّمت الحسن والحسين أمامها، وخرجت إلى البقيع باكية، فلا
تزال بين القبور باكية، فإذا جاء الليل أقبل أمير المؤمنين عليه السلام إليها وساقها بين يديه إلى منزلها.
قال الإمام الصادق عليه السلام: “عاشت فاطمة بعد أبيها خمسة وسبعين يوماً لم تُرَ كاشرةً ولا ضاحكة”..
وكانت هذه هي الخطوة الأولى للمواجهة أما الخطوة الثانية فكانت في خطبتها المباركة.

——————————–
1. كذب واضعوا الحديث على تاريخ اليهود والنصارى فلم يثبت انهم اتخذوا قبور انبيائهم مساجد!
2 البخاري : ۳ / ۱٥٦ ، ۱۹۸ ، ۸ / ۱۱٤.
3 . أحكام الجنائز للألباني ص ۲۱۹.
4 ـ مسند ابن راهويه : ۲ / ٥۹۹.

عن المؤلف

السيد مرتضى المدرّسي

اترك تعليقا