غير مصنف

الصائم بين المائدة الرمضانية ومائدة الانترنيت

ديننا الاسلامي، ومدار عزتنا وسؤددنا، جاء بطقوسه العبادية متناغما مع التكامل الانساني للوصول الى طريق الهدى والصلاح الدنيوي والاخروي….

ديننا الاسلامي، ومدار عزتنا وسؤددنا، جاء بطقوسه العبادية متناغما مع التكامل الانساني للوصول الى طريق الهدى والصلاح الدنيوي والاخروي.

وشهر رمضان المبارك إحدى المحطات الكبرى في مشوار الانسان في تقوية علاقته بربه.

فالاستعداد فطري دأبت عليه النفوس المؤمنة لربها المنقادة لأوامره ونواهيه، فترى المجتمع المسلم في حركة مستمرة من الطاعة والعبادات، للظفر بلحظات الرحمة الإلهية التي يكتنزها الشهر الفضيل، وما فيه من معاجز الغفران وقبول الأعمال، والبركة التي تحل على الأمم المسلمة.. كما قال نبينا المصطفى، صلى الله عليه وآله: «أيها الناس..! قد أقبل إليكم شهر رمضان بالبركة والرحمة والمغفرة، شهره أبرك الشهور، وأيامه أفضل الأيام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات».

 

 «شهر دُعيتم فيه الى ضيافة الله»

 

ونعم المضيف الذي يريد لنا الربح والفوز فعلينا عدم الهدر والتسويف والتقصير، بل شدّ رباط الحزم والحذر من كل مبددات الطاقة ومشتتات الفكر والروح والقلب والايمان.

والاغلب يعلم ولاينكر دخول مائدة أخرى هي موازية بل تتسابق مع الاولى بما لها من تشويق وجمهور كبير من الاتباع والمريدين، ألا وهي؛ «المائدة الانترنيتية»، وهي مائدة تحوي من الحداثة والتطور والزخرف الكثير.

صور، ومواقع، ورسائل، ومحادثات من خلال؛ فيس بوك، او تويتر، او انستغرام، او تلغرام، او فايبر، او وتساب، وغيرها كثير مما لانهاية له من تطبيقات سمّرتنا لمتابعة إشعاراتها وتحديثاتها ساعة بساعة، بل لحظة بلحظة.

يقول نبينا الأكرم، صلى الله عليه وآله: «…وجُعلتم فيه من أهل كرامته، أنفاسكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب» فالفرد المؤمن الصائم ينبغي له استثمار هذه التجارة المربحة مع الله سبحانه، الذي وعدنا بالأعمال المتقبلة، والدعوات المستجابة، فهل نشقى بعد كل تلك الفيوضات الإلهية، والأنوار القدسية التي تنزل على الأرض؛ لتحيلها هداية ورشاداً؟

 

 لايجتمع حُبـّان في قلب المؤمن

 

هنالك مقولة مأثورة: لا يجتمع حبان في قلب المؤمن؛ حب الله وحب من سواه، وقلب الانسان الصائم في شهر رمضان يكون أمام شعاع الرحمة الإلهية، كما يكون ايضاً معرضاً لشعاع الشاشة الزرقاء، طبعاً؛ هذا لا يعني أن كل ما تبثه الشاشة الزرقاء مغاير للتوجه الرباني، حيث بالامكان متابعة صفحات ومواقع مخصصة للثقافة السليمة والفكر الأصيل، والدعوة الى الله تعالى بقلوب طيبة صادقة، مما يمكن أن تكون وسيلة من وسائل التسامي والتكامل، ولن تكون العكس؛ وسيلة للتسافل، بل وتكون جاثمة على قلب المؤمن، وتخلق له «رين» على روحه وقلبه تمنعه من استنشاق هواء الإيمان، واستماع أحكام القرآن وتلاوة آياته آناء الليل وأطراف النهار.

ولو افترضنا تخصيص وقت لها فلتكن غنية بالنافع من القول، والصالح من الموعظة الحسنة، ونشر الخير والمعروف والتآخي والوئام والسلام، ونبذ التباغض والخلافات، والدعوة للمحبة والتسامح، والأهم من كل ذلك؛ تعزيز العلاقة مع الرب -تبارك وتعالى-.

 

 سارق الوقت 

 

الكل يتفق ويعلم أن سُراق الوقت من حولنا كثيرون أبرزهم؛ هذه الاجهزة التي تبخسنا اعظم اللحظات وأكثرها نقاوة لتملأها بالشوائب والتفاهات إن لم يكن بالباطل والمحرمات ومع دخوله بحياتنا شئنا أم أبينا.

وكونه سلاحا ذا حدين، فبقدر ما هو مفيد ومسلٍّ، حيث يجعلك على اتصال متواصل بالعالم الخارجي، لكنه في نفس الوقت يُعد سلاحاً مدمراً.

نعم؛ حصلنا في هذا الزمن المتقدم تقنياً على اشياء ثمينة لكن فقدنا أشياء أثمن! فتلك المواقع التي تسمى «التواصل» في حقيقتها تنتهي في كثير من الاحيان الى القطيعة، فاغلب من يُدمن دخول مواقع التواصل يقطع صلته بمعظم اصدقائه الحقيقيين واقربائه وارحامه، بل قد يقاطع أبويه واخوته، وفرغم جلوسه معهم في نفس المكان، إلا انه يعيش في عالم آخر لا يجد عائلته فيها.

ومما لا يخفى على الجميع ما تسببت به هذه المواقع من تفكك للأسر، وهدم للعلاقات الزوجية، وتشتيت لحمة الاقارب، وحتى قطع صلة الارحام، والتفرقة بين الاصدقاء والأحباب، كل ذلك بسبب الدخول العشوائي وغير المدروس وغير المقنن لهذه التقنية من التواصل في حياتنا الاجتماعية.

 

 عالج الادمان قبل فوات الأوان

 

لو دخلنا بالعمق لنشخّص الاسباب من وراء الادمان على الانترنت لوجدنا؛ الملل، والفراغ، والوحدة، والمغريات التي يوفرها الانترنت للفرد، ثم قلّة الوازع الديني، و إلا فالانسان المتوازن بحياته بامكانه التمييز بين الصالح والطالح، خاصة وهو يتخذ القرآن الكريم دستورا ومنهجاً في حياته، وحين يردد آياته المباركات في قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}.

 

 للعودة خطوات

 

أولاً: الرقابة الذاتية، فإذا ضغطت بأناملك على لوحة المفاتيح للاتصال بأحد المواقع، وقبل أن تضغط على مفتاح الدخول تذكر أن الله سبحانه وتعالى أقرب إليك من حبل الوريد، وهو عالم -جلّ علاه- بالسر وأخفى، فانظر؛ أخي وأختي الكريمة، إن كان الموقع الذي تريد أن تتصل به، فيه شيء من غضب القوي العزيز فيذكرك الله قائلاً: {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ}.

ثانياً: ينبغي على أرباب الأسر مراقبة الابناء ومتابعتهم ولو عن بعد وتنبيههم باستمرار لأخذ الحيطة والحذر حين التعامل مع الشبكة العنكبوتية.

ثالثاً: أن لا يكون شهر رمضان، شهر الكسل والخمول و إشغال التفكير بالطعام والشراب فقط، فيبحث البعض عما يضيع به وقته لحين أذان المغرب، مع أن من المتوقع من الانسان الواعي ان يستغل الوقت الإضافي الذي يفسحه له الصيام بالتفكّر بالاهداف الرئيسية من الصوم ونشر النافع منها انترنيتياً، مثل قول الحبيب الهادي، صلى الله عليه وآله: «…فاذكروا بجوعكم وعطشكم، جوع يوم القيامة وعطشه، وتصدقوا على فقرائكم ومساكينكم، ووقروا كباركم، وارحموا صغاركم، وصلوا أرحامكم، وغضوا عمّا لا يحلّ النظر إليه أبصاركم، وعمّا لا يحل الاستماع إليه أسماعكم، وتحنّنوا على أيتام الناس، يتحنّن الله على أيتامكم، وتوبوا إلى الله من ذنوبكم، وارفعوا إليه أيديكم بالدعاء في أوقات صلواتكم». فكل حرف من تلك الحروف المحمدية، تعد نوراً ملكوتياً من الأخلاق والفضائل التي تربي نفوس المسلمين ذاتياً ومجتمعياً، خاصة ما يتصل منها بالدعوة للنظر في شؤون الفقراء والمساكين، ومراعاة أحوالهم، وتوفير متطلباتهم، كنوع من الدعم والتكامل المجتمعي، ليؤتي الشهر الفضيل أكله وفوائده المرتجاة من الصوم، ومجاهدة النفس.

رابعاً: الاندماج قدر الامكان بعوالم الثلّة المؤمنة، وقراءة القرآن الكريم والاعتبار والعِظة.

خامساً: وختاماً؛ إن كان ولابد، فالدخول لمواقع الفضيلة والابتعاد عن المواقع الموبوءة التي تقودنا بخطواتها للحرام والغضب الالهي.

وعلينا أن نتذكر قول الحبيب المصطفى، صلى الله عليه وآله «…فإن الشقي من حُرم غفران الله في هذا الشهر العظيم».

وهل أشقى ممن هطل عليه الشهر الكريم بنوائله السخية، لكنه يعرض عنه ويبقي على ذنوبه وآثامه؟! ألسنا نطلب منه سبحانه وتعالى دائماً وأبداً أن يتقبل منا صالح أعمالنا ويغفر لنا خطايانا طيلة شهور السنة؟

ما أسعد الانسان بالجوائز والمنح الإلهية التي تتلائم مع قدر الابتعاد عن هوى النفس والاقتراب من حياض الورع والطاعة.

وصدق أمير الهدى، عليه السلام، إذ قال سائلاً الحبيب الهادي، صلى الله عليه وآله: «فقمت فقلت: يا رسول الله! ما أفضل الأعمال في هذا الشهر؟ فقال: يا أبا الحسن أفضل الأعمال في هذا الشهر الورع عن محارم الله عزَّ و جلَّ».

عن المؤلف

هيأة التحرير

اترك تعليقا