ثقافة رسالية

نهج البلاغة والحياة (33) ضمانتنا من الإنزلاق في الكفر

قال أمير المؤمنين، عليه السلام: “وَ الْكُفْرُ عَلَى أَرْبَعِ دَعَائِمَ: عَلَى التَّعَمُّقِ، وَالتَّنَازُعِ، والزَّيْغِ، وَالشِّقَاقِ: فَمَنْ تَعَمَّقَ لَمْ يُنِبْ إِلَى الْحَقِّ وَمَنْ كَثُرَ نِزَاعُهُ بِالْجَهْلِ دَامَ عَمَاهُ عَنِ الْحَقِّ وَمَنْ زَاغَ سَاءَتْ عِنْدَهُ الْحَسَنَةُ، وَحَسُنَتْ عِنْدَهُ السَّيِّئَةُ، وَسَكِرَ سُكْرَ الضَّلاَلَةِ وَمَنْ شَاقَّ وَعُرَتْ عَلَيْهِ طُرُقُهُ، وَأَعْضَلَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ، وَضَاقَ عَلَيْهِ مَخْرَجُهُ”.

بعد أكلمنا البحث في شرح دعائم الإيمان من كلام أمير المؤمنين، عليه السلام، الورادة في نهج البلاغة، نشرع ــ بإذن الله تعالى ــ في بيان دعائم الكفر.

الايمان استقامة، والكفر إلتواء، ولا يكفر الانسان إلا بسبب عقدة نفسية أو انحراف في الضمير، او إلتواء في الوجدان.

 الايمان شعلة اوقدها الله في ضمير البشرية، ولا يحتاج الانسان للإيمان بها إلا التوجه إليها، حينما يشير اليك شخص بنور، فلا يحتاج ان يثبت لك وجود النور، فمجرد ان تتوجه الى النور تؤمن بوجوده، وحينما يكون إنسان ما غافلا عن النهار، فلا يحتاج الى ذكر أدلة وبراهين ليؤمن بوجوده، فيكفي ان يتلفت الى ما حوله، فإن رأى كل مكان منورا عرف أنه نهار.

⭐ الايمان استقامة، والكفر إلتواء، ولا يكفر الانسان إلا بسبب عقدة نفسية أو انحراف في الضمير، او إلتواء في الوجدان

لا يحتاج الانسان كثيراً الى أدلة فلسفية وتعمّق فيها لكي يكون مؤمنا، فالانبياء في هذه الحياة لم يأتوا بأدلة فلسفية لا يفهمها إلا الفلاسفة، وإنما كان دورهم ان يذكروا الانسان: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ}.

الانبياء مذكّرون لان الايمان موجود في ضمير الانسان، إلا إذا جاءت عقبة أمامه او وجد جحاب للإيمان، وإلا فنظرة الى ما قبل ولادة الانسان، والى بعد ان يموت، هذه النظرة تكفيه لان توقفه عند حقيقته؛ فمن أنا؟ ومن أين أتيت؟ والى أين سأذهب؟ فقبل خمسين عاما كنت موجودا؟ وبعد خمسين عاما أين سأكون؟

عن هشام بن الحكم قال: دخل ابن أبي العوجاء على الصادق عليه السلام فقال له الصادق: يا ابن أبي العوجاء أمصنوع أنت أم غير مصنوع؟ قال: لست بمصنوع، فقال له الصادق عليه السلام: فلو كنت مصنوعا كيف كنت تكون؟ فلم يحر ابن أبي العوجاء جوابا وقام وخرج. (بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج ٣ – الصفحة ٣١).

كما ان الصحة في الانسان هي الاصل، فيحن يولد الطفل متكاملا فلا احد يقل: لماذا ولد كاملا! لكن إذا ولد مشوها يتوجه السؤال الى الام وعما عملته او اكلته خلال فترة الحمل، كذلك الامر من حيث الروح، فالاصل عند جميع الناس الاستقامة، وهي اصل، والإلتواء هو الطارئ على الضمير.

تقف أمام الانسان في طريق الايمان عقبات؛ كعقبة الجهل، والطمع، والشهوات وما شابه ذلك، وهذه كلها حُجُب، وقد جاءت روايات لبيان ذلك.

الانسان لو ترك وطبعه فهو مؤمن، والايمان لا يحتاج الى دليل، بل الكفر يحتاج الى سبب.

المؤمن هو الانسان الطبيعي، بينما الكافر هو الشاذ لانه يشذ عن طبيعته الفطرية، بينما المؤمن ينسجم مع الكون بما فيه من مخلوقات هي تخضع وتطيع لله ــ تعالى ــ بينما الكفار يعصي!

الكافر معقد التفكير، والنفسية، والسلوك، والمؤمن عكس ذلك” المؤمن هين لين”، بل إن المؤمن انسان بسيط بمعنى انه ليس معقدا، حين يرى الحق يتبعه، وحين يجد الكفر يجتنبه، وعند قراءته لآية في كتاب الله يطيع بدون سبب او علة، فما دام الأمر الكلي بالنسبة إليه ثابت، فلا يحتاج الى ادلة وبراهين على كل صغيرة وكبيرة.

قال رسول الله صلى الله عليه وآله: يا عباد الله أنتم كالمرضى، والله رب العالمين كالطبيب فصلاح المرضى فيما يعلمه الطبيب يدبره به لا فيما يشتهيه المريض ويقترحه، ألا فسلموا لله أمره تكونوا من الفائزين”.

المؤمن ليس إنسان معقدا ويبادر الى الاعمال الايمانية والصالحة بدون نقاش، وهنا تكمن حقيقة الايمان.

  • الحُجب التي تمنع الانسان من الايمان

إذا فقدت دعامة من دعامات الايمان يكون الكفر ولو بنسبة معينة، في كلام أمير المؤمنين،عليه السلام، يبين تسع مفردات للكفر وكلها امور سلبية، التَّعَمُّقِ وَالتَّنَازُعِ والزَّيْغِ وَالشِّقَاقِ السَّيِّئَةُ وَالسَكِرَ، وسُكر الضلالة بِالْجَهْلِ الضَّلاَلَةِ”.

فقدان الوعي سكر، وفقدان الرؤية ضلالة، وفقد العلم جهل، وترك الاستقامة شقاء، وهكذا في بقية المفردات هي في الواقع فقدان، فالجهل عدم العلم، وبمجرد ان لا يعرف الانسان شيئا فهو جاهل به، كما ان الظلام فقدان النور، والايمان نور إن وجد يكشف للإنسان كل شيء، وإن فُقد فالانسان يحتاج الى تفسير في كل شيء.

“الْكُفْرُ عَلَى أَرْبَعِ دَعَائِمَ: عَلَى التَّعَمُّقِ، وَالتَّنَازُعِ، والزَّيْغِ، وَالشِّقَاقِ”

” التَّعَمُّقِ” يعني التشكيك والتساؤل، والتعمق الفلسفي، وهي نوع من الوسوسة، وَالتَّنَازُعِ الى الجهل، “والزيغ” عن الحق، “وَالشِّقَاقِ” هو الاختلاف.

“فَمَنْ تَعَمَّقَ لَمْ يُنِبْ إِلَى الْحَقِّ”، فمن يشكك في كل أمر، ويتساءل لا يرجع الى الحق، فبدل ان يرجع الى الفطرة السليمة يحاول التعمق و طرح التساؤلات التي لو طرحها واعتقد بها فهي لا تلغي الحقيقة لانها موجودة، فالله ــ تعالى  ــ هو الميمهن على هذا الكون، وطرح تلك التساؤلات والتشكيكات لا يُغيّر تلك الحقيقة، والعقل لا يستطيع ان يدرك وجود الله ــ عز وجل ـ قال أمير المؤمنين، عليه السلام: “الحمد الذي لا يحصي مدحته القائلون.. ولا يؤدي حقه المجتهدون”.

لا تحاول ان تطرح على نفسك تساؤلات وإذا لم تجد الاجابة عليها، تكفر بالله، وتتعقد، فعقلك محدود، كبصرك وسمعك.

وقال أمير المؤمنين، عليه السلام: “تكلموا في خلق الله ولا تتكلموا في الله فإن الكلام في الله لا يزداد صاحبه إلا تحيرا”.

⭐ لا يحتاج الانسان كثيراً الى أدلة فلسفية وتعمّق فيها لكي يكون مؤمنا

الايمان بذرتها يقين الانسان، اما التشكيك ــ مثلا ــ في وجود الله، وفي عالم الآخرة وما اشبه فهي غيب لم يبنها الله ــ تعالى ــ والشيطان يأتي ويركب شكوك الانسان ويزيدها أكثر، كما ان اليقين دعامة من دعامات الايمان، فالتشكيك دعامة من دعامات الكفر.

“وَمَنْ كَثُرَ نِزَاعُهُ بِالْجَهْلِ دَامَ عَمَاهُ عَنِ الْحَقِّ” هنالك اناس يحبون الوصول الى الحق، وهناك آخرون يتظاهرون بالعلم وهم في الحقيقة جهّال، بمعنى ان لديه موقفا سابقا لكن يأتي ليجادل، والنزاع من دعامات الكفر.

“وَمَنْ زَاغَ سَاءَتْ عِنْدَهُ الْحَسَنَةُ وَحَسُنَتْ عِنْدَهُ السَّيِّئَةُ” الكفر قائم على الزيع، لذلك تجد بعض الناس يرون الحق هو الذي يطابق شهواته ورغباته، حتى الايات القرآنية يفسرها كما يعجبه.

“وَسَكِرَ سُكْرَ الضَّلاَلَةِ” الضلالة لها سُكر، فالذي يزيغ قلبه ويميل للشهوات والرغبات فهو يعيش حالة من السُكر، فمن دعائم الكفر هو الميل، لكن لابد للانسان المؤمن ان يكون قلبه مثل الميزان لا يميل الى شيء.

وَمَنْ شَاقَّ وَعُرَتْ عَلَيْهِ طُرُقُهُ وَأَعْضَلَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ، وَضَاقَ عَلَيْهِ مَخْرَجُهُ” ذلك الرجل العنود ان يكون شاذا في المجتمع، فالأمة في جهة وهو في أخرى، دائما يحب ان يسبح ضد التيار، طبعا إذا كانت الاكثرية مع الباطل فلا يُطلب منك أن تكون معها، ولكن هناك شخص بطبعه يُحب العناد الذي هو من أعمدة الكفر، فبعض الاحيان يرى الانسان الحق في جانب معين، لكنه يعاند فتوعر عليه الطرق حينما يكون شاذا، ولا يعرف كيف المخرج.


  • مقتبس من محاضرة لآية الله السيد هادي المدرسي (حفظه الله)

عن المؤلف

هيأة التحرير

اترك تعليقا