ثقافة رسالية

الشباب و الاستفادة من فرص التقدم

قال الله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ}

حين نسمع أمير المؤمنين، عليه السلام، وهو الذي قارع صناديد قريش، وقاتل ابطالهم وناوش ذؤبانهم، فأودع قلوبهم احقادا خبيرية وحنينية وغيرهن، فما هي الصورة التي ترتسم في اذهاننا عن هذه الشخصية؟

بتعبير آخر؛ حينما نسمع أن أمير المؤمنين هو الذي آثار النبي وبات في فراشه، وهو الذي استودعه النبي، صلى الله عليه وآله، الودائع في مكة وأمره بارجاعها، ثم ياتي بالفواطم من مكة الى المدينة، وعلي برز نجمه في بدر حيث قتل نصف وساهم في قتل باقي القتلى..

نحن نتصور شخصية امير المؤمنين، عليه السلام، أنه رجل متوسط العمر، او كبيرا فيه، وبطلا من الابطال، إلا مراجعة التاريخ نجد بأن عليا لك الغلام ذو العشرة أعوام حين آمن بالنبي، وكان مدافعا عن رسول الله، وحينما هاجر الى المدينة كان عمره تسع عشر سنة، وعمره في بدر عشرين سنة.

أمير المؤمنين، عليه السلام، في ريعان شبابه وتلك البطولات صدرت منه، ولم يكن الامر عجيبا، إذ أن هذه الفئة العمرية هي فترة البطولة وان يظهر الانسان شخصيته، لذلك حينما نقرأ عن كربلاء نجد أن الطابع العام من اصحاب الحسين كانوا شبابا، فالعباس بن علي كان عمره اربعا وثلاثين سنة، واخوته كان دونه في العمر، ومسلم بن عقيل سفير الحسين حينما استشهد كان عمره ثمانية وعشرين سنة، وكذا بقية الأعمار في كربلاء كانوا اصغر من ذلك، ومنهم لم يبلغ الحلم كالقاسم بن الحسن عليه السلام.

لكن اليوم ما الذي تغيّر؟

لماذا نجد الشاب طائشا؟ وكأن هذه الفترة هي فترة الطيش، أما إذا رأينا شابا ناجحا نجده شيئا عجيبا والكل يحتفي به.

⭐ في الأحاديث الشريفة هناك تركيز كبير على فترة الشباب، في حديث القدسي: يا ابناء العشرين جدوا واجتهدوا

تمتاز فترة الشباب بأن الطاقات تتفتح فيها التي يعبر عن هذه ربنا تعالى بفترة القوة: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً}، وفترة الشباب لا تدوم لان بعدها يأتي الضعف والشيبة.

والحديث عن فترة الشباب لا يرتبط ببلد دون آخر، او فئة دون أخرى بل هو حديث في كل العالم، وإذا نظرنا نجد أن اكثر الناس تنظر الى فترة الشباب انها فترة اللعب، واللهو، وليس فترة الانجاز والانتاج، والعطاء.

في الأحاديث الشريفة هناك تركيز كبير على فترة الشباب، في حديث القدسي: يا ابناء العشرين جدوا واجتهدوا”، وفي الحديث عن النبي الاكر، صلى الله عليه وآله: “اغتنم خمسا قبل خمس: .. وشبابك قبل هرمك”. لان يوم القيامة يأتي الانسان ويسأل عن خمس ومنها: “وشبابه فيما ابلاه”.

في المناجاة الشعبانية لأمير المؤمنين، عليه السلام: “وقد افنيت عمري في شرة السهو عنك وابليت شبابي في سكرة التباعد منك”، هذه الفترة العمرية التي فيها طاقة قوة فيها آفة، يقول أمير المؤمنين، عليه السلام: “ينبغي للعاقل أن يحترس من سكر المال، وسكر القدرة، وسكر العلم، وسكر المدح، وسكر الشباب، فإن لكل ذلك رياحا خبيثة تسلب العقل وتستخف الوقار”.

شياطين الجن والانس اليوم مركزون على فئة الشباب تركيزا شديدا، وحينما نرى انتشار الفسق والمجون فإن المستهدَف هي فئة الشباب، وهي الاعمار من 14 فما فوق للذكور، و12 فما فوق للإناث، والخوارزميات التي تعتمدها شركات التواصل الاجتماعي تستهدف هذه الفئة بطريقة مخيفة جداً، والدليل على ذلك، لو أنك فتحت حسابا في الانتسغرام او الفيس..، ستجد الاقتراحات الجنسية والصفحات المختلفة التي تروّج لهذا الامر.

فئة الشباب هي العمود الفقري للدولة، فحين تذهب اليوم الى اليابان او الصين تجدهم يشكون من الشيخوخة، ولذا تجدهم يحرصون على هذه الفئة العمرية، لأن الأمن يعتمد على الشباب، وكذلك الطاقة العلمية والابداعية تأتي من الشباب، وكذا الاقتصاد يرتكز على هذه الفئة لان العاملين جلّهم من الشباب.

مع أن بعض الدول تعاني من الشيخوخة وتعد بالنسبة لهم مشكلة كبيرة، ومع ذلك ترى الاستهداف الواضح لحرف الشباب عن اهدافهم الاساسية، ولذا يسعون الى صنع رموز وهمية للشباب، كأن يكون الرمز لاعب كرة قدم، او شاب حقق انجازا لانه قطع مسافة كبيرة بالدارجة الهوائية! حينما ينظر الشاب الى هذا الواقع والى الرموز الموجودة ماذا نتوقع ان يستلهم منهم؟

وبوجود هذه الحالة لا يتوقع ان يُدفع الشاب الى الانجاز الفكري والابداع العملي، وهذا نتيجة النمذجة الخاطئة، والدفع باتجاه الشهوات، يقول أمير المؤمنين، عليه السلام: “وتأتي عليه ساعة يهم بالخطيئة فتشجعه روح القوة وتزين له روح الشهوة ويقوده روح البدن حتى يقع في الخطيئة”.

⭐ لا عذر لاحد ـ في زماننا هذا ـ فيما يرتبط بالتفقه في الدين، ولابد ان يفرّغ الانسان نفسه لطلب العلم ولو لفترة محدودة، من خلال الدورات والبرامج، والآن الأمر اسهل من ذي قبل لمن لا يستطيع التفرغ للعلم

كذلك فئة الشباب مستهدفة من قبل التيارات الفكرية والثقافية القائمة اليوم، فحين نأتي النسويات في العالَم نجد أنهن يركزن على فئة المراهقات، والتيارات الالحادية أيضا يستهدفون هذه الفئة، ولذا من الطبيعي جدا أن نجد الانحدار ـ فيما يرتبط بالانجار ـ عند فئة الشباب.

  • كيف يمكن للشاب أن يحصّن نفسه؟

حتى يستطيع تجنب الفتن لابد من عدة أمور:

  • الأول: تنمية تقوى الله في أنفسنا:

 قال ـ تعالى ـ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} فإذا لم يفكر الانسان بتنمية تقواه و ورعه سيقع ـ شاء أم أبى ـ في شِراك الفتن، ولا يجب ترك تمتين العلاقة مع الله الى ما بعد فترة الشباب.

تنمية الورع والتقوى مثل بناء العضلات؛ فالانسان لا يستطيع من اليوم الاول حمل مئة كيلو، فأول يوم عشرين، ثم تتدرج شيئا فشيئا، وكذلك في التقوى والملكات النفسانية، وعدم تنمية الورع من البداية يعرّض الانسان للسقوط في أول شهوة او شبهة تواجهه.

“ان الله ليباهي بالشاب المؤمن الملائكة انظروا الى عبدي ترك شهوته من أجلي”، وممن يظلهم الله في ظله يوم لا ظل الا ظله شاب نشأ في عبادة الله”

وتنمية التقوى تأتي من حالة استشعار ان الله ينظر الينا دائما، بهذه الحالة تنمو روح التقوى والورع عند الانسان المؤمن.

  • الثاني: التبكير بالزواج:

 من الأمور التي تحصّن الشاب، قال رسول الله، صلى الله عليه وآله: “أيما شاب تزوج في حداثة سنه عج شيطانه: يا ويله عصم مني دينه”، لكن الكثير من العوائل تقدم أموراً اخرى على الزواج، فبعض الآباء يتذرع بعدم تزوج بنته بحجّة إكمال الدراسة، وبعدها الوظيفة، وكذلك الشاب حينما يُسأل لماذا لم تتزوج حتى الان؟ يقول: اريد أكوّن نفسي ومستقلبي! قال عن أبي عبد الله، عليه السلام قال: من ترك التزويج مخافة العيلة(الفقر) فقد أساء بالله الظن”.

ويجب ان يكون هناك تسهيل من الجميع في مسألة الزواج، فالبعض يرفع في مهر بنته ويتصور بذلك انه يضمن سعادة بنته وهذا تفكير خاطئ، قال الإمام الصادق، عليه السلام: أما شؤم المرأة فكثرة مهرها وعقوق زوجها”، وقال النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله: خير نساء امتي اصبحهن مهرا واقلهن مهرا”، وجاءت الروايات الكثير في ثواب من يزوّج المؤمنين؛ فقد يساهم بمال، او يساهم بأي شيء يكون سببا في زواج المؤمن.

  • الثالث: العلاقة بـأهل البيت عليهم السلام:

 وهذه من الأمور التي تنمي روح التقوى والورع عند الانسان المؤمن، فهم أبواب النجاة، وهم صلة بين العبد والله ـ تعالى ـ وهذه الصلة تكون بقراءة زيارتهم، عليهم السلام، كقراءة زيارة آل ياسين، وزيارة عاشوراء التي يؤكد ويحث العلماء على قراءتها كل يوم، وقد يكون الانسان مشغولا فالآن بامكانه سماعها، المهم أن لا تُترك زيارات أهل البيت بأي حال من الأحوال.

  • الرابع: التفقه في الدين

قال أبو جعفر، عليه السلام: “لو أتيت بشاب من شباب الشيعة لا يتفقه في الدين لأوجعته”، ولدنيا الكثير من الروايات في ضرورة التعلّم، قال النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله: اغد عالما أو متعلما أو مستمعا أو محدثا، ولا تكن الخامس فتهلك”.

ولا عذر لاحد ـ في زماننا هذا ـ فيما يرتبط بالتفقه في الدين، ولابد ان يفرّغ الانسان نفسه لطلب العلم ولو لفترة محدودة، من خلال الدورات والبرامج، والآن الأمر اسهل من ذي قبل لمن لا يستطيع التفرغ للعلم، فهناك حوزات الكترونية تبث دروسها إما بشكل مباشر، او لديها دورس مسجلّة في مختلف العلوم الدينية، الفقهية، والاخلاقية، والتاريخية، وبأذواق مختلفة، وإذا لم يستطع الفرد ان يتلحق بحوزة الكترونية عليه الارتباط بعالم دين، يتعلم منه المسائل الدينية.

  • الخامس: الطموح:

كثير من الآيات والروايات أكدت على ان يكون الانسان مُنجزاً ومعطاءً، فلا يكتفي بالحالة العامة من حوله، فبعض الشباب ينظر الى اقرانه الذين وصلوا الى مرحلة علمية معينة، فيتخذ قرارا أن يكون مثلهم!

وعلى الانسان المؤمن ان يحمل افقا واسعا في هذه الحياة، فالطاقة التي وهبنا الله ـ تعالى ـ لم تكن للنوم والأكل والشرب وحسب!  وهذه النعم الكبيرة من حولنا كلها مسخرة في خدمة الانسان لتكون حياته من أجل الله ـ تعالى ـ.

فلابد للانسان المؤمن ان يكون لديه هدف رباني كبير، وربما انه لا يستطيع انجازه في الحياة، لكن الله ـ تعالى ـ يثيبه عليه، {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى}، وإذا اردنا ان نسلتهم الطموح فلنأخذه من اصحاب الحسين، عليه السلام، يوم عاشوراء.


  • مقتبس من المجلس الحسيني لهذا العام للسيد مرتضى المدرّسي.

عن المؤلف

السيد مرتضى المدرّسي

اترك تعليقا