ثقافة رسالية

عَاشُورَاءُ وَدَورُهَا فِي بَيَانِ القِيَادَةِ الرَّبَانِيَّة (3)

  • مقدمة في القيادة

القيادة في هذه الحياة وبالخصوص هذه الأمة باعتبارها خاتمة الرسالات السماوية، وخلاصة الأديان الإلهية، فمسألة القيادة فيها تعني قيادة الحضارة الإنسانية التي تأمر بها السماء ويطمح إليها الأنبياء والرسل جميعاً منذ آدم، عليه السلام، وحتى الرسول الخاتم، صلى الله عليه وآله، فهي في غاية الأهمية والحيوية، وهي أصل أصيل واساسية واليست جانبية أو هامشية كما يحاول البعض أن يظهرها.

بل وهناك مَنْ يحاول أن يتحدث عنها بشيء من الدهاء والخبث السياسي لأنها تتعلق مباشرة بالسياسة والسلطة والحكم فالأجدر بها هو الأقوى عليها، أو الأسرع بالوصول إليها بأي طريقة كان الوصول وهذا ما نعرفه بالطريقة الميكيافلية التي تقول: (الغاية تبرر الوسيلة)، ولكن بالتدقيق بهذه القاعدة نجدها أخذها ميكيافلي من رجال قريش الأوائل ولا سيما معاوية بن أبي سفيان الذي كان يقول: “لو أن بيني وبين الناس شعرة ما قطعتها فإذا جذبوها رخيتها وإذا رخوها جذبتها”، وكل يبرر كل جريمة وعمل مهما كان شنيعاً في سبيل الوصول والمحافظة على الكرسي و الحكم والسلطة فكم كان يقول: “إن لله جنوداً من عسل”، ويعني بذلك الحوادث والإغتيالات السياسية التي كان يقوم بها عن طريق العسل الذي يدس فيه السم كما فعل بمالك الأشتر النخعي (رضوان الله عليه)، وغيره ممن يعتبرهم خصوماً له في السياسة ومن رجال أمير المؤمنين الإمام علي ، عليه السلام، المعروفين.

  • عاشوراء ودورها

وهنا يجب أن نقف طويلاً عند بعض الكلمات التي رويت عن الإمام الحسين، عليه السلام، في مسيرته المباركة منذ اللحظة الأولى في مجلس الوليد وحتى آخر خطبة له في يوم عاشوراء، وذلك لما فيها من بيان واضح وجلي لأصول المسألى القيادية والخلافة السياسية والحكم والسلطة وكل ما يتعلق الأمر بذلك كله.

⭐ يضطلع القائد بدور محوري هام في تربية الأمة أخلاقياً، ويبذل قصارى جهده وما بوسعه من قدرات وطاقات فكرية وعلمية وشخصية لكي يصل بالمجتمع في ظل قيادته إلى أقصى درجات الكمال الدنيوي والأخروي

فعاشوراء ليست معركة قصيرة في التاريخ البشري استغرقت نصف نهار أو أكثر بقليل، بل هل كانت الميزان والمعيار الذي بيَّن للأمة قيادتها الربانية الحقيقية، وحكامها وساستها الواقعيين من أولئك الطلقاء المزيفين من صبيان النار الأموية وشجرتها الخبيثة الملعونة في القرآن الحكيم، ولذا تتعرَّض عاشوراء في كل عام إلى سيل من التشكيكات والإشكالات التي يرسلها مع الذباب الإلكتروني عشاق السلطة وأبواق الحكام الظالمين والساسة الجائرين ليشوِّهوا الصورة الراقية التي رسمتها عاشوراء في أذهان المسلمين والمؤمنين.

  • القيادة الصالحة الرَّبانية

بهذا العنوان المختصر ولكن الواسع جداً بدأ جناب الدكتور الباحث الراشد طرحه لمسألة القيادة التي يعتبرها محورية وأساسية وهامة وضرورية – وهي كذلك طبعاً – في معركة عاشوراء من حيث قيادتها الربانية الصالحة التي اختارها الله ـ تعالى ـ من قبل أن يخلق الخلق، ولكنها تجسَّدت عملياً على أرض الواقع وفي حياة الأمة الإسلامية بالإمام الحسين، عليه السلام، في يوم عاشوراء وتلك المعركة التي ربما هي من أقصر معارك التاريخ زماناً وأضيقها مكاناً إلا أنها من أعظم وأكبر ملاحم التاريخ أثراً وخلوداً في التاريخ البشري والذاكرة الإنسانية ومازالت تتفاعل وفي كل يوم تكبر وتزداد وتتألق في هذه الدنيا وكل ذلك بسبب حنكة، وحكمة القيادة الصالحة.

وينطلق الدكتور الراشد في معالجته لمسألة القائد والقيادة من كلمات الإمام الحسين، عليه السلام، نفسها لا سيما رسالته لأهل الكوفة والتي يبيِّن لهم فيها بعض صفات القائد الصالح والإمام الحق الذي يحق له سياسة وحكم الأمة الإسلامية والتي جاء فيها: “فَلَعَمْرِي مَا اَلْإِمَامُ إِلاَّ اَلْعَامِلُ بِالْكِتَابِ، وَاَلْآخِذُ بِالْقِسْطِ، وَاَلدَّائِنُ بِالْحَقِّ، وَاَلْحَابِسُ نَفْسَهُ عَلَى ذَاتِ اَللَّهِ”. (وقعة الطف: ج۱ ص96).

فالإمام القائد، عليه السلام، يحدد أربعة شروط في القائد الصالح وهي:

أولاً: العامل بكتاب الله، وما ورد فيه من حدود وتوجيهات وأوامر ونواهي.

ثانياً: الآخذ بالقسط، لتحقيق العدالة في المجتمع وجعله هدفاً أسمى للقيادة.

ثالثاَ: الدائن بالحق، بأن يكون الحق محوراً ومرتكزاً في تنظيم حياة المجتمع.

رابعاً: الحابس نفسه على ذات الله، وهو العامل بحدود الله والورع عن الوقوع فيما حرَّمه الله عليه.

هذه الصفات والشروط الأربعة التي نلاحظها في رسالة المولى السبط الشهيد تمثل أسمى وأرقى مباني ومعاني القيادة الصالحة للمجتمع الصالح، أو للمجتمع الفاسد الذي يُراد له الإصلاح، فالملاحظ أن محورها الحق ومدارها القسط في المجتمع، فأي قائد أو إمام لابدَّ من أن يكون الحق مداره والقسط في المجتمع هدفه الأرقى ليكون قائداً صالحاً ويسعى في إصلاح الفاسد في المجتمع على كل المستويات.

الحاكم العادل هو الذي يحبس نفسه على ذات الله وليس يحبس الأمة على ذاته، ويعمل لتحقيق رسالة الله بالقسط في المجتمع، لا أن يسخِّر المجتمع لتحقيق مصالحه ومآربه لينهل من ملذات وشهوات نفسه ما يريد ويرغب على حساب المجتمع والناس الذين يحكمهم، فتكون همَّته في إرضاء نفسه وهواها، وليس إرضاء ربه وإصلاح المجتمع بتربيته وترويض الفاسدين وتربيتهم ليكونوا كغيرهم من أبناء المجتمع الصالح.

يقول الدكتور الباحث وهو الخبير النطاسي بالشأن السياسي المعاصر: “يضطلع القائد بدور محوري هام في تربية الأمة أخلاقياً، ويبذل قصارى جهده وما بوسعه من قدرات وطاقات فكرية وعلمية وشخصية لكي يصل بالمجتمع في ظل قيادته إلى أقصى درجات الكمال الدنيوي والأخروي”. (ص: 74).

فأول ما يحتاجه القائد الصالح أن يربِّي ويصلح نفسه لتكون ضمن المشروع الإلهي العام في هذه الحياة كما كان الرسول الأعظم، صلى الله عليه وآله، في الدولة الإلهية الأولى، ثم ما رسمه وبيَّنه وصوَّره قولاً وعملاً وسلوكاً في حياة البشرية الإمام علي بن أبي طالب، عليه السلام، الذي صنَّفته الأمم المتحدة في بداية هذا القرن: “بأنه أعدل حاكم في تاريخ البشرية”، وهو الذي أعطى للدنيا المعنى والمبنى الحقيقي للقائد والسياسي الصالح الذي كان يقول وهو في الكوفة: “أَ أَقْنَعُ مِنْ نَفْسِي بِأَنْ يُقَالَ هَذَا أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ أُشَارِكُهُمْ فِي مَكَارِهِ اَلدَّهْرِ، أَوْ أَكُونَ أُسْوَةً لَهُمْ فِي جُشُوبَةِ اَلْعَيْشِ! فَمَا خُلِقْتُ لِيَشْغَلَنِي أَكْلُ اَلطَّيِّبَاتِ كَالْبَهِيمَةِ اَلْمَرْبُوطَةِ هَمُّهَا عَلَفُهَا، أَو اَلْمُرْسَلَةِ شُغُلُهَا تَقَمُّمُهَا تَكْتَرِشُ مِنْ أَعْلاَفِهَا، وَتَلْهُو عَمَّا يُرَادُ بِهَا، أَوْ أُتْرَكَ سُدًى، أَوْ أُهْمَلَ عَابِثاً، أَوْ أَجُرَّ حَبْلَ اَلضَّلاَلَةِ، أَوْ أَعْتَسِفَ طَرِيقَ اَلْمَتَاهَةِ”. (نهج البلاغة: ج۱ ص416 ك 45).

  هكذا تكون سيرة القائد الصالح والإمام الرباني الحق بأن يقيس نفسه بأضعف أمته ولا يرضى لهم أن يلقبوه بلقب أمير المؤمنين إذا لم يكن مثلهم، بل مثل أقلهم وأضعفهم، لأنه يقول، عليه السلام،: “هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ وَيَقُودَنِي جَشَعِي إِلَى تَخَيُّرِ اَلْأَطْعِمَةِ، وَلَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوْ اَلْيَمَامَةِ، مَنْ لاَ طَمَعَ لَهُ فِي اَلْقُرْصِ، وَلاَ عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ، أَوْ أَبِيتَ مِبْطَاناً وَحَوْلِي بُطُونٌ غَرْثَى وَأَكْبَادٌ حَرَّى”.

⭐ القائد وفق النظرية السياسية في الإسلام ليس ملوكياً يستحوذ على كل ما يقع عليه نفوذ السلطة لديه، أو سلطوياً يتصرف في الناس والأموال كما يشتهي

ما أحوجنا في هذا العصر إلى إحياء هذه المفاهيم التي ما سمعها أهل العالم وأهل الدنيا عن أصول الحكم وصفات الحاكم الصالح ووظائفه في شعبه وقيادته، لأن هؤلاء الحكام يفهمون أن الحكم هو أن يكون الشعب والأمة وكل الإمكانيات والطاقات تحت تصرفهم وفي خدمتهم ليعبَّ من الشهوات والملذات ما يشاء ويرغب ولو أدى ذلك لأن يجوع الشعب ويعيش الفقر المدقع، أو يقتل الشعب كله لأجل عيونه وإرضاء لشهوته ونُهمته بالسلطة والحكم كما نرى ونسمع في معظم بلادنا العربية والإسلامية فهم يبيعون الوطن والشعب لأعدى أعدائهم كالصهاينة واليهود في سبيل البقاء في كراسيهم ومناصبهم المنكوسة وأشخاصهم المتعوسة.

  • الطريق الوحيد لحصانة المجتمع

ولذا يقول الدكتور الباحث عن القيادة الرسالة والإمامة الربانية الصالحة:” القيادة في المنظور الإسلامي تختلف عن جميع أشكال القيادات الدنيوية، وخصوصاَ نظام الملوكية والسلطوية، فالإسلام يجعل من تقوى الله ـ تعالى ـ ومخافته شرطاً أساسياً في صلاح القائد لقيادة المجتمع، بضمان ما يترتب على ذلك في آثار في خدمة الأمة، وإقامة حدود الله ـ تعالى ـ وتحقيق العدل، أما في الأنظمة الوضعية فإن المجتمعات تخضع لأهواء السلطان، أو الرئيس، أو الملك، دون ضوابط أخلاقية رادعة، لكي يكون مؤتمناً على حياة المجتمع ومقدراته، وحامياً لقيم العدل وحفظ الكرامة والإنسانية.

القائد وفق النظرية السياسية في الإسلام ليس ملوكياً يستحوذ على كل ما يقع عليه نفوذ السلطة لديه، أو سلطوياً يتصرف في الناس والأموال كما يشتهي، إنما هي مسؤولية كبرى ورسالة إلهية، تستهدف خير ورفاه المجتمع وحماية مقدراته وصيانة مواده، والعمل على إنقاذ الناس والمجتمعات البشرية من التيه والضلال والانحراف والنهوض بهم نحو ما يحقق العدل والرفاه الاجتماعي الشامل”. (ص: 75).

ثم بعد بسط البحث والحديث في القيادة والصالحة ومواصفات القائد الصالح لقيادة المجتمع الإسلامي إلى نتيجة يلخصها؛ بأن القيادة الصالحة هي الطريق الوحيد للحكم الصالح وبيان ذلك بقوله: “لا شك بأن القيادة الصالحة التي تخشى الله تعالى حق خشيته، ستكون هي الأفضل لقيادة المجتمع، وهذا بالإضافة إلى ما يمكن وضعه من قوانين وبنود رقابية على أداء الحاكم وحكومته فإن وجود الرقابة الذاتية والمتمثلة في الخوف والخشية من الله تعالى ستكون قيمة إضافية عليا لحماية مقدرات المجتمع وموارده وبسط الحق والعدالة فيه”. (ص: 78).

ثم البحث جميل وشيِّق في الحكم الفاسد والمفسد ومعالجة الإمام الحسين، عليه السلام، القائد الرباني الملهَم، للحكومة الأموية الفاسدة، ولشخصية الحاكم يزيد المجرم الفاجر ودروس الإمام الحسين ، عليه السلام، في نهضته المباركة.

يتبع (عاشوراء وفلسفة الإصلاح الاجتماعي)..

عن المؤلف

الحسين أحمد كريمو

اترك تعليقا