ثقافة رسالية

نهج البلاغة والحياة (22) الزهد و الطريق الى التغيير الذاتي*

يقول أمير المؤمنين، عليه السلام: “..وَمَنْ زَهِدَ فِي الدُّنْيَا اسْتَهَانَ بِالْمُصِيبَاتِ”.

في المقالين السابقين كان الكلام عن بعض دعائم الايمان التي وردت عن أمير المؤمنين، عليه السلام، في نهج البلاغة، وفي هذا المقال وما بعده نكمل بقية بيان دعائم الإيمان.

الزهد في المعنى الاسلامي للكلمة، هو الانقطاع القلبي عن كلما في هذه الارض، وعن كل ما يرتبط بهذا الجسد، والتوجه الى الله، الزهد يصنع في قلب الانسان الثورة، ذلك ان الثورة جزء من فطرته؛ فاذا نظرنا الى الطفل نجده ثائرا، فما دام قلبه لم يتعلق بشيء، فهو متمرد على كل عقبة، إلا أن كثيرين في هذه الحياة ـ وبسبب وجود عقبات أمامهم ـ  يفقدون حالتهم الثورة بمرور الزمن، فإذا بهم بعد فترة يتركون رسالتهم وأهدافهم، لان ان قلوبهم في البداية كانت متعقلة بالقيم.

إلا أن الذي منع كثيرين عقبة هنا، وأخرى هناك، وكل عقبات الحياة وهمية الا عقبة القلب، والركوع والسجود، وعبادة الاصنام، والصنم لا يكون صنما إلا اذا وقف الانسان دونه ولم يتحرك.

⭐ الزهد في المعنى الاسلامي للكلمة، هو الانقطاع القلبي عن كلما في هذه الارض، وعن كل ما يرتبط بهذا الجسد، والتوجه الى الله

الله خلق الانسان ثائرا بشرط ان يكون زاهدا، والزاهد بلا اشكال ثائر لانه لا يجد شيئا يخسره في  هذه الحياة، فهو يثور من أجله قيَمَه، والثورات إنما تنحرف حينما تتحول من قيم يبحث عنها رجال، الى مؤسسات يحاول الرجال الحفاظ عليها، فإذا بهذه المؤسسات تتحول الى اصنام وعقبات أمام الثورة.

حينما يكون الواحد منا زاهدا في هذه الحياة، سيكون ثائرا، ليس فقط لعام او عامين، وإنما طول حياته، فحين ننظر الى شخص طاعن في السن لا يقوى على شيء، فنراه ثائرا فيعني ذلك أنه زاهدا.

أمير المؤمنين، عليه السلام، عاش في حياته غزوات ومعارك، وحينما قتل كان عمره ثلاثا وستون عاما، فليس بسبب طيش في الحياة صار ثائرا، وإنما بسبب زهده، وقد يتعجب الانسان كيف أن شخصية أمير المؤمنين، عليه السلام، في عمر ثلاث وستين سنة يكون قمّة في الثورة، نعرف حينها أن قلبه لم يتعلق بشيء، وفي سبيل الله مستعد بأن يثور على اقرب الناس اليه، وأن يخسر اقرب الاصدقاء اليه؛ لانه زاهد في السلطة، والمال، والعيال، وفي كل شيء.

الزاهد ايضا صابر؛ لان الذي لا يصبر على مصيبة او خسارة، لانه يرى الخسارة خسارة، والمصيبة خسارة؛ فخسارة المال بالنسبة اليه مصيبة، وكذا إذا اصيب في جسمه فهو يعده خسارة، أما الزاهد في الحياة فخسارته في مبادئه، وما دام متمسكا بها لا يرى في شيء خسارة، حتى لو كانت خسارة ولده، وذلك أمير المؤمنين، عليه السلام، دفعه ولده محمد بن الحنفية الى وسط المعركة.

الزاهد شجاع؛ فهو لا يخاف من سجن، وتعذيب، وتهجير، أما من قلبه متعلق بأمور الدنيا، فهو خائف، فلا يمكن أن يقدم على شيء قد يدخله السجن.

من استهان بالدنيا هانت عليه المصيبات”، كان اصحاب النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، يبحثون عن الموت في المعارك التي يخوضونها لانه كانوا يمتلكون صفة الشجاعة التي هي نتاج الزهد.

في يوم عاشوراء نكّت (أضحك) أحد اصحاب الإمام الحسين، عليه السلام، لصاحبه، فقال: ليست ساعة مزحة.

التفت اليه وقال: ليس بيننا وبين الحور العين إلا أن يميل علينا بسيوفهم وليتهم قد مالوا.

بالاضافة الى كل ذلك؛ فإن للزهد الاجر الكبير عند الله ـ تعالى ـ، في حديث شريف: “أكثر أهل الجنة البلهاء”، لكن ليس الابله المتخلف عقليا حسب وصف الناس، وإنما هم الزاهدون لذلك فهم الفاهمون الذي عرفوا قدر الآخرة، وفهموا ان الدنيا مهما عاشوا فيها لابد ان يكون لها انتهاء، سيقال للإنسان في يوم من الايام: “قف وادخل القبر”.

⭐ فكم من الزاهدين جاءت الدنيا الى ابواب منزالهم، وجاءتهم المناصب صاغرة تحت اقدامهم، وكم من باحث عن منصب، ومال، وبيوت، وعقارات، ماتوا قبل ان يسكنوا فيها

في حديث قدسي عن الله: إن أدنى ما أعطي للزاهدين في الآخرة أن أعطيهم مفاتيح الجنان كلها حتى يفتحوا أي باب شاؤوا ولا أحجب عنهم وجهي ولأنعمنهم بألوان التلذذ من كلامي، ولأجلسنهم في مقعد صدق وأذكرنهم ما صنعوا وتعبوا في دار الدنيا وأفتح لهم أربعة أبواب: باب تدخل عليهم الهدايا منه بكرة وعشيا من عندي، وباب ينظرون منه إلي كيف شاؤوا بلا صعوبة، وباب يطلعون منه إلى النار فينظرون منه إلى الظالمين كيف يعذبون وباب تدخل عليهم منه الوصايف ( الخادمة) والحور العين”.

وفي حديث قدسي يخاطب الله فيه الدنيا: “اخدمي من خدمني واستخدمي من خدمكِ”، ذلك الذي يعطي للدنيا؛ التي هي عبارة عن مال، ودار، وصحة، وعافية..، تراه يصرف عمره كله لبناء بيت، ولا يهنأ ان يعيش حتى يذهب الى القبر، فالدنيا لم تنصف مع اولئك الذين عبدوها. فكم من الزاهدين جاءت الدنيا الى ابواب منزالهم، وجاءتهم المناصب صاغرة تحت اقدامهم، وكم من باحث عن منصب، ومال، وبيوت، وعقارات، ماتوا قبل ان يسكنوا فيها.


  • مقتبس من محاضرة لآية الله السيد هادي المدرسي (حفظه الله).

عن المؤلف

هيأة التحرير

اترك تعليقا