ثقافة رسالية

القدوة الصالحة وتأثيرها في سعادة المجتمع

يقول الله ـ تعالى ـ: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ}.

من يراجع تاريخ المجتمعات البشرية يجد ان ما من مجتمع إلا هو يهتم ويحتفي بمجموعة من الابطال، وهذا الأمر يتجلى في ثقافة كل مجتمع، وبمراجعة كتب الأدب والنثر، والشعر، نجد هذا الامر جليّا.

حتى كتب احدهم: أن الناس يحبوا البطولة حتى انهم لو لم يجدوا بطلا اخترعوا ابطالا، ذلك أن قلب الإنسان يحب ان يتعلق بشخصية تكون لها صفات مثالية، ولو راجعنا الثقافات المختلفة لوجدنا ذلك.

ربما توجد شخصيات حقيقية، لكن يأتي دورالادباء والشعراء لتضخيم الشخصية، وصناعة بطلا منها، مثلا الثقافة الاغريقية نجد شخصية مثل هرقل، أو الملك مينوس، فترى الكتابات والأشعار المثالية حوله.

أو ـ مثلا ـ نجد الشخصية الاسبانية الوهمية دون كيشوت، الذي لا أصل لهذه الشخصية، لكن كاتباً اسبانيا صنع هذه الشخصية في ستينيات القرن التاسع عشر، وصارت شخصية بطولية، أُلفت حولها الكتب، وتم تقديمها كشخصية مثالية للأطفال.

أما في الادب العربي فهناك الكثير من الشخصيات التي صنعت، فنجد ملحمة كلكامش، الذي صُنع منه بطلا، وهو في الاساس غير موجود.

في عالمنا اليوم صار الموضوع أوضح من ذي قبل، وله مناحي أخرى، فسابقا كانت البطولة تساوي الفروسية في الحروب والمعارك، لكنها هذا المفهوم أخذ في التوسع، فحاتم الطائي بطلا لانه اصبح مثالا للكرم والعطاء.

اليوم؛ ما من مجتمع إلا وهو يحاول ان يصنع مجموعة من الابطال ويضيفهم الى رصيده الثقافي، وأبسط الامثلة ـ وكل الشباب يعرفون ذلك ـ هو البطل في الرياضة؛ سواء في كرم القدم أم السياقة، أم في السباحة، فرونالدو بطل البرتغال في كرم القدم، وهكذا في بقية الالعاب الرياضية الاخرى، فتجد الترميز بأشكال مختلفة؛ فيطبعون صورته على الملابس، وعلى العطور وما شابه من أشكال الترميز.

📌 اليوم؛ ما من مجتمع إلا وهو يحاول ان يصنع مجموعة من الابطال ويضيفهم الى رصيده الثقافي

يتعلم الانسان حوالي 80% من العلوم من خلال النظر، والاقتداء، و17% من خلال الاستماع، و3% من خلال بسائر الجوارح التي زودها الله ـ تعالى ـ بها.

ولأن الإنسان لا يمكنه أن يتعلم الكثير من المعارف والعلوم إلا من خلال الاقتداء، فافضل طريقة لذلك، هو صناعة شخصية يتلف الناس حولها، فمثلا إذا لم يرَ الإنسان أحدا يسبح في الماء، فمن المستحيل أن يتعلم السباحة، لأن الكلام النظري لا يغني إذا لم يكن هناك تطبيق عملي لذلك.

وكذلك الأمر في الشجاعة، فالإنسان لا يمكنه أن يفهمها إلا إذا تجسدتْ الشجاعة في شخصية، حينها يمكن للفرد ان يحاكي ويمثل تلك الشخصية في حياته وسلوكه.

  • الشخصيات المزيفة

في قبال الشخصيات الحقيقية، صُنعتْ شخصيات مزيفة، فكما أن الأدب الجاهلي، ومن قبله اليوناني يحتوي على شخصيات مزيفة، كذلك اليوم هناك شخصيات مزيفة كشخصية “باتمان”، أو شخصية “سبيدرمان”، وهذه الشخصية تنمتي الى عرق معين، ولون عينها مختلف، وهو يؤدي دور معين في الدفاع عن هذا الكوكب، والدفاع عن الخير.

صناعة الشخصية يدخل في منظومة التوجيه الثقافي، فمثلا شخصية الكابتن ماجد الذي تُرجم حلقات مسلسله الى كل لغات العالم، وصناعة هذه الشخصية جاء نتيجة أن الشعب اليباني يكره كره القدم ـ كرياضة ـ فصنعوا هذه الشخصية، تبدأ بعلب كرة القدم في الحي، ثم فريق المدرسة، ثم الى المنتخب الوطني، والوصول الى كأس العالم.

  • البطل الحقيقي والبطل المزيف

ما المائز بين البطل الحقيقي والمزيف؟

فهل بطل كرة القدم ـ مثلا ـ بطل حقيقي أم مزيف؟

هناك ركائر تسمى ركائز البطولة، وربما يشترك فيها الجميع وهي على النحو الآتي:

الركيزة الاولى: أن يكون لدى البطل إيمان وعزم الى الشيء الذي يريد الوصول إليه.

الركيزة الثانية: أن تكون لدى البطل شجاعة ومبادرة.

الركيزة الثالثة: المضي والاستمرارية.

على الرغم من وجود هذه الركائز والضخ الإعلامي للشخصيات المزيفة، نجد أن نجمهم يأفل! كاللاعب الارجنتيني ماردونا، لم يبقَ له ذكر، خصوصا وانه انزلق في المخدرات، كذلك النجوم الحاليين في مختلف المجالات، نجد أنهم يأفلون شيئا فشيئا.

بينما الابطال الحقيقيون كلما مرَّ الزمن كلما ازدادوا تألقاً، واضحت قضيتهم أكثر بريقاً لماذا؟

الجواب: من الناحية الدينية، أن اولئك الابطال تجاوزوا ذواتهم، فمشكلة الابطال المزيفون أنهم يجعلون من أنفسهم محورا للبطولة، بينما البطل الحقيقي هو الذي يتجاوز ذاته، وهذا ما يؤكده أمير المؤمنين، عليه السلام، حين سُئل من اشجع الناس؟ قال: “من غلب هواه”.

من المشاكل التي نعاني منها اليوم، وخصوصا الشباب محورية الذات، وجاء السوشل ميديا وعزّز هذا الأمر، عبر صنع شخصية وهمية، وغير واقعية.

تتجلى حقيقة البطل هو أنه بطل في أي مكان، وتحت أي ظرف كان، فلا يتغير مستواه أين ما كان، ففي عالم الرياضة لا يمكن نقل المهاجم ليكون حارس المرمى.

📌 الإنسان لا يمكنه أن يتعلم الكثير من المعارف والعلوم إلا من خلال الاقتداء، فافضل طريقة لذلك، هو صناعة شخصية يتلف حولها

والامثلة تضرب ولا تقاس، ولكن من باب التوضيح، نجد بطل الاسلام، أمير المؤمنين،عليه السلام، لم يتغير في أي ظرف كان، فتارة ينام في فراش النبي، وأخرى ينقل النساء من مكة الى المدينة.

نحن بحاجة الى ربط المجتمع بالابطال الحقيقيين؛ كأمير المؤمنين، عليه السلام، وابطال كربلاء، يقول الله ـ تعالى ـ: {فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ}، يجب أن يكون الابطال امامنا لنسير خلفهم.

البطل الحقيقي هو الذي أين ما نُظر في أي جانب من جوانب حياته نجده صحيحا، لذلك من يسير خلفه يطمئن، لانه يثق أن البطل الذي يسير خلفه صحيحا في كل جانب من جوانب شخصيته، يقول أمير المؤمنين، عليه السلام: “فأما أولياء الله فضياؤهم فيها اليقين ودليلهم سمت الهدى”.

سعادات المجتمعات بارتباطها بشخصيات الابطال، ولذا يجب رسم هذه الشخصيات في أذهان الكبار والصغار في كل جانب من جوانب حياتهم؛ من السخاء، والعطاء، والشجاعة..، والوصول الى البطولة والالتحاق بتلك الشخصيات يكمن في تجاوز الإنسان ذاته.

سُنّة الله في خلقه أن من يعمل خالصا لوجه ـ الكريم ـ فإنه يرفعه، واصحاب الإمام الحسين، عليه السلام، وصلوا الى هذه الدرجة، يقول الإمام الحسين في مكة قبل مسيره الى كربلاء: ألا من كان باذلا فينا مهجته موطنا في الله نفسه فليرحل معنا”، أصحاب الحسين، عليه السلام، هم الذين يجب أن يرمزون، ونجعلهم قدوة أمام شباب مجتماعاتنا.

  • بماذا تميّز أبي الفضل العباس؟

نقرأ في زيارة أبي الفضل العباس، عليه السلام: “أَشْهَدُ أَنَّكَ لَمْ تَهِنْ وَلَمْ تَنْكُلْ، وَأَنَّكَ مَضَيْتَ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ أَمْرِكَ مُقْتَدِياً بِالصّالِحِينَ، وَمُتَّبِعاً لِلنَّبِيّينَ”، فقد جعل قدوته أمير المؤمنين، عليه السلام.

العباس لم يكن همه أن يُظهر شجاعته وبطولته في ارض المعركة، لذا نقرأ في زيارته عليه السلام: “الراغب فيما زهد فيه غيره من الثواب الجزيل والثناء الجميل”. فأبي الفضل العباس، وصل الى المقام الذي وصله بتجاوز ذاته، وإخلاص العمل لله وفي سبيله.

إن سعادة المجتمع وتطوره تكمن في ربطه بالأبطال الحقيقيين، أمثال اصحاب أبي الفضل العباس، وعلي الأكبر، وبقية أصحاب الإمام الحسين، عليه السلام، لأن بطولتهم تجعل الجميع يندفع نحو تحقيق القيم والأخلاق والمثل التي ضحوا من أجلها، وفيها تكمن سعادة المجتمع.

عن المؤلف

السيد مرتضى المدرّسي

اترك تعليقا