أسوة حسنة

الإِمَامُ مُحَمَّدُ البَاقِر، عليه السلام، وَتَأسِيسُ الجَامِعَةِ الجَعفَرِيَّةِ الحَضَارِيَّةِ

استشهد الإمام محمد الباقر في 7 ذي الحجة 114هـ في المدينة المنورة

  • مقدمة حضارية

الحياة تقوم بالحق، وتُبنى بالعلم، وتستمر بالجهاد في سبيل الله، ولذا يجب على كل إنسان أن يؤمن بالحق ـ سبحانه وتعالى ـ، ويتعلم ما يلزمه ويحتاجه لقوام حياته وتحسين معيشته، ويسعى في جهاد نفسه الأمارة، وعدوِّه الخارجي قدر وسعه وطاقته.

والحضارة هي العلم مقروناً بالعمل الجاد المثمر، ولا يكون ذلك إلا بحضور منظومة القيم السماوية لترسم على الأرض وفي الحياة البشرية أجمل صورة وأرقى مدنية، وبالتقدم العلمي والتطور تقوم الحضارة البشرية، ومن هنا كانت الحاجة إلى بقر العلم وتفجيره ضرورة لدفع عجلة التقدم، والتطور قُدماً إلى الأمام.

  • الإمام محمد الباقر عليه السلام

إذا عرفنا تلك المقدمة المختصرة نعرف مدى عظمة الدور الذي قام به ذاك الإمام الهمام، سيد الأنام وشبيه خير الخلق جده المصطفى محمد، صلى الله عليه وآله، محمد بن علي، عليهما السلام، الذي عُرف في السماء والأرض بـالباقر، أو باقر علوم الأنبياء والمرسلين، أو باقر علوم الأولين والآخرين، أو باقر العلم، وهذا يعني أنه اختزن العلوم الغابرة عن الأنبياء والمرسلين، عليهم السلام، جميعاً، ثم فجَّرها عيوناً، فسارت أنهاراً وجداول في الحياة الاجتماعية التي كانت تتقهقر مع تقدم حكام بني أمية وطغاتهم، لأن هؤلاء الطلقاء من أبناء الشجرة الزقومية الملعونة في القرآن جاؤوا ليدفنوا الإسلام، ويُبطلوا القرآن، ويُعيدوا الأمة أدراجها إلى الجاهلية الجهلاء التي أنقذهم الله منها بمحمد، صلى الله عليه وآله، وما أُنزل عليه من القرآن الحكيم.

📌كان دور الإمام الباقر، عليه السلام، يتمثَّل بدور المعلم، والتعليم، وفتح أبواب علوم الدِّين على مصراعيها، فأحيى العلوم الدِّينية وأبدع في فتح بعض الآفاق للعلوم الدنيوية التي طورها وبلورها وعلمها ونشرها ولده العظيم الإمام الصادق، عليه السلام

فكم كان حساساً ودقيقاً دور الإمام الخامس من أئمة المسلمين، لأن عصره كان عصر الأكباش الأربعة الملعونين من بني الحَكم بن أبي العاص طريد رسوله الله، صلى الله عليه وآله، فمن عجائب الدَّهر الخؤون، أنهم قَالُوا: أُخِذَ مَرْوَانُ بْنُ اَلْحَكَمِ أَسِيراً يَوْمَ اَلْجَمَلِ فَاسْتَشْفَعَ اَلْحَسَنَ وَاَلْحُسَيْنَ، عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ، إِلَى أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ، فَكَلَّمَاهُ فِيهِ فَخَلَّى سَبِيلَهُ فَقَالاَ لَهُ: يُبَايِعُكَ يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ؛ فَقَالَ، عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: أَ وَ لَمْ يُبَايِعْنِي بَعْدَ قَتْلِ عُثْمَانَ؟ لاَ حَاجَةَ لِي فِي بَيْعَتِهِ إِنَّهَا كَفٌّ يَهُودِيَّةٌ، لَوْ بَايَعَنِي بِكَفِّهِ لَغَدَرَ بِسُبَّتِهِ، أَمَا إِنَّ لَهُ إِمْرَةً كَلَعْقَةِ اَلْكَلْبِ أَنْفَهُ، وَهُوَ أَبُو اَلْأَكْبُشِ اَلْأَرْبَعَةِ، وَسَتَلْقَى اَلْأُمَّةُ مِنْهُ وَمِنْ وَلَدِهِ يَوْماً أَحْمَرَ. (نهج البلاغة/خطبة: 73).

 هذه الكف اليهودية صارت تحكم الأمة الإسلامية لستة أشهر (لعقة الكلب أنفه)، ومن ثم ورَّث الحُكم إلى أولاده الأربعة، وكان الإمام الباقر، عليه السلام، يعيش في تلك الدولة التي قتلت أهل بيته الأطهار الأبرار، وحجج الجبار عليهم، في يوم عاشوراء الخالد حيث حضر ورأى بأم عينه كل ما جرى على جدِّه سيد الشهداء، وإخوته، وأولاده، وأصحابه، حتى قال، عليه السلام: “لولا خوفنا على شيعتنا من الموت لروينا لهم ما جرى في كربلاء”.

  • تأسيس الجامعة الباقرية

في ذلك الظرف الاستثنائي العجيب الذي عاشه الإمام محمد الباقر، عليه السلام، في ظل والده الحكيم الإمام زين العابدين، عليه السلام، لذي كانت السلطات الأموية تعدُّ عليه أنفاسه الشريفة، وتمنع أحد من طلابه وتلاميذه من الحضور عنده، أو تمنعه من إعطاء درس في الفقه أو التفسير أو الأخلاق وغيرها في مسجد جده رسول الله، فنشر علمه وحكمته عن طريق الدعاء، والعبادة، تربية العبيد وتثقيفهم وتعليمهم ثم تحريرهم لينقلوا عنه بعض ما تعلموه خلال فترة وجودهم في خدمته.

ولكن ما أن تسنَّم كرسي السلطة الأموية ذاك الطاغية الجبار العنيد الذي رمى القرآن الكريم بالنبل وقال شعره المشهور والمشهود له بالكفر، الذي كان يحمل حقداً عجيباً على الإمام السجاد، عليه السلام، ويقول: لا راحة لي وعليّ بن الحسين موجود في دار الدنيا، فاشترى سمَّاً ناقعاً وأرسله إلى واليه على المدينة وأمره أن يُنهي حياة ذاك الإمام الذي أنهكه الحزن على أبيه، وأبلته العبادة لرِّبه سبحانه وتعالى، وهكذا ورث الإمام محمد الباقر، عليه السلام، تلك الأمانة الربانية، والإمامة الإلهية فقام فيها ولكن كيف قام؟ وكيف تصرَّف ليتخلص من مراقبة وجلاوزة بني أمية الأشرار؟

والتاريخ الإسلامي يقول: أن الفترة التي عاشها الإمام الباقر، عليه السلام، كانت بداية الاضطرابات عليهم لاسيما بعد انتقال السلطة إلى الجيل الثاني من بني الحَكم، حيث انتفضت عليهم الأمة من أقطارها وبدأت تلوح في الأفق الكثير من الثورات، ومعظمها كانت نتيجة الظلم والجور الذي مارسه طغاة بني أمية وحكامهم، فوجد الإمام الباقر، عليه السلام، فرصةً سانحةً له ليبني صرحاً علمياً تحتاجه الأمة التي دخلت في نفق مظلم من الضياع ربما يوصلها إلى الجاهلية من جديد.

بدأ حركته العلمية خلال فترة إمامته للأمة والتي استغرقت حوال عقدين من الزمن من حياة عليه السلام، فكان لها من الأثر الكبير والتأثير الرائع في الأمة الإسلامية، وكان دور الإمام الباقر، عليه السلام، يتمثَّل بدور المعلم، والتعليم، وفتح أبواب علوم الدِّين على مصراعيها، فأحيى العلوم الدِّينية وأبدع في فتح بعض الآفاق للعلوم الدنيوية التي طورها وبلورها وعلمها ونشرها ولده العظيم الإمام الصادق، عليه السلام، فوضع الأُسس الأولية للجامعة الجعفري الحضارية؛ ولذلك يعدُّ الإمام الباقر، عليه السلام، هو مؤسّس الحوزة العلمية في الإسلام، وواضع أولى دعائمها.  

📌حركة الإمام الباقر، عليه السلام، انطلقت بمرحلة جديدة من مراحل وأدوار عمل الأئمة المعصومين

هكذا أراد الإمام الباقر، عليه السلام، أن يقوم بثورة علمية وفكرية واسعة في عصر سادهُ الجهل والظلام في الأمة، فأعاد ترتيب العلوم الشرعية بتأسيس المدارس والحوزات الدّينية، وتربية جيل من العلماء والفضلاء الذين حملوا علم أهل البيت (صلوات الله عليهم)، فوضع الإمام الباقر، عليه السلام، حجر الأساس لهذه النهضة العلمية، والفكريّة، والثقافيّة، والرسالية في الأمة الإسلامية.

  • إحياء الفكر الدِّيني

حركة الإمام الباقر، عليه السلام، انطلقت بمرحلة جديدة من مراحل وأدوار عمل الأئمة المعصومين، عليهم السلام، حيث انتشر الفساد بكل أشكاله وأنواعه لاسيما السياسي والاقتصادي والفكري والثقافي، وبدأ يظهر واضحاً وجلياً في حياة الأمة فلم يعد خافياً على أحد، حيث بدأت الشّبهات تعمُّ رجال العلم والحُكم، وشاع حديث الزندقة، والإلحاد، والكفر والانحراف العقائدي، وظهرت البدع بشتى أشكالها وأنواعها، بما كان يعمله حكام بني أمية الذين لم يكن لهم دين، ولذا قام الإمام وهو الذي روي عنه، عَلَيْهِ السَّلاَمُ قوله: “إِذَا ظَهَرَتِ اَلْبِدَعُ فَعَلَى اَلْعَالِمِ أَنْ يُظْهِرَ عِلْمَهُ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ سُلِبَ نُورَ اَلْإِيمَانِ”.

الانحراف شمل الجميع حتى بات يهدّد المجتمع الإسلامي كله، فهبّ الإمام الباقر، عليه السلام، بما يحمله من رسالة كونية، وعلم لدُنِّي فأظهر علمه ذلك الكنز الثمين الذي كان يختزنه بين جوانحه فدحض المتقوِّلين، وقمع المتمرّدين، وفضح الأمويين، وذلك عن طريق درسه في المدينة المنورة، وحوزته الفتية التي أعدَّ فيها أولئك الأعلام الأفذاذ ليكونوا دُعاة رسالييّن، وأعلام حقيقيين يقومون بهذه المَهمة العلمية والدينية، لينتشروا العلم الحق لأهل البيت، عليه السلام، في أكبر مساحة ممكنة من العالم الإسلامي، وهو الذي قَالَ، عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ، لِسَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ وَاَلْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ: “شَرِّقَا وَغَرِّبَا فَلاَ تَجِدَانِ عِلْماً صَحِيحاً إِلاَّ شَيْئاً خَرَجَ مِنْ عِنْدِنَا أَهْلَ اَلْبَيْتِ”.

ضعف الدولة الأموية، وتصدعها وانهيارها السياسي الحاصل في زمن هشام بن عبد الملك وما بعده، والظروف السياسية والاجتماعية كانت مناسبة جداً لفتح مدرسته الرِّسالية، ليتخرّج منها المئات من العلماء الأكفاء، الذين تصدّوا بإشرافه مباشرة لتلك التيارات المنحرفة في الدِّين، والفكر، والسلوك، وها نحن وبعد قرون مضت على تأسيسه الحوزة العلمية، والمدرسة الحضارية، نعيش على آثاره ونأخذ من معين فيوضاته وما زال الفقه، والحديث، والتفسير، والكلام، وغيرها من العلوم الدينية عيالاً عليها، وعلى رجالها الأفذاذ الذين كانوا كالجبال فكلٌّ يشرب من ذلك المنهل العذب للعلم الباقري الصافي.

  • تأسيس المدرسة وتخريج العلماء

ففي تلك المدرسة العلمية درس العلماء ولكن برز من بينهم أربعة من الفطاحل الذين حفظوا لنا الحديث والرواية من مصدرها ومنبعها العذب، الإمام الباقر، عليه السلام، وهم محمد بن مسلم، وزرارة بن أعين، وبريد البجلي، وأبو بصير، فأحدهم كان يحفظ آلاف الأحاديث عنه، بحيث قال الإمام الصادق، عليه السلام: “لولا زرارة لظننت أن أحاديث أبي ستذهب”.

وفي رواية إبراهيم بن عبد الحميد وغيره أن أبا عبد الله الصادق، عليه السلام، كان يقول: “رحم الله زرارة بن أعين، لولا زرارة ونظراؤه لاندرست أحاديث أبي”، وقال فيه وفي جماعة من أصحابه منهم أبو بصير ليث المرادي، ومحمد بن مسلم، ويزيد بن معاوية العجلي: لولا هؤلاء ما كان أحد يستنبط هذا الفقه، هؤلاء حفَّاظ الدِّين، وأمناء أبي، عليه السلام، على حلاله وحرامه، وهم السابقون إلينا في الدنيا والآخرة.

وهكذا كان الوجود المبارك للإمام محمد الباقر، عليه السلام، وتأسيسه للمدرسة والحوزة العلمية لإحياء علوم الدِّين وفقه الشيعة والشريعة، ونشر العلوم أثر عميق في الأمة الإسلامية، وبذلك أحيى الإمام الباقر، عليه السلام، الدِّين الإسلامي، وحفظه من الضياع، ثم استلمه منه ولده العظيم الإمام الصادق، عليه السلام، فطور تلك المدرسة، وفتحها على مصراعيها فتحولت إلى أعظم جامعة علمية في التاريخ كله، فكان الإمام الباقر، عليه السلام، هو المؤسس الحقيقي للجامعة الجعفرية، بعلومها الحضارية التي ما زلنا نعيش على مائدتها العامرة.

فآلاف التحية والثناء لإمامنا الباقر وعظم الله أجركم يا موالين له.

عن المؤلف

الحسين أحمد كريمو

اترك تعليقا