أسوة حسنة

السَّيدَةُ زَينَب جَوهَرَةٌ قُدسِيَّةٌ صَانَهَا عَلِيٌّ عليه السلام

توفيت واستشهدت بالقهر والحزن السيدة زينب ، عليه السلام، في 15 رجب سنة 62هـ

  • مقدمة في الشَّخصية

الإنسان يتألف من روح لطيفة وجسد وهو من الطين وهو مختلف بحسب البشر فمنهم طينته طاهرة طيبة وأُجري عليها الماء العذب، ومنهم طينته مالحة سبخة ملعونة وهي الخَبَال، ومنها نفهم قول صَاحِبِ اَلْأَمْرِ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ: (إِنَّ شِيعَتَنَا خُلِقَتْ مِنْ شُعَاعِ أَنْوَارِنَا، وَبَقِيَّةِ طِينَتِنَا)، أو (إِنَّ شِيعَتَنَا مِنَّا خُلِقُوا مِنْ فَاضِلِ طِينَتِنَا وَعُجِنُوا بِمَاءِ وِلايَتِنَا)، فالطينة الطاهرة وأُجري عليها الماء العذب فجاءت منها الأنبياء والأولياء والمؤمنين الصالحين، وأما الطينة الخبيثة المجبولة بالماء النجس فقد جاء منها الطغاة والجبارون وشياطين الإنس والعصاة من البشر.

وهنا تتأثَّر شخصية الإنسان بطينته وروحه، ولكن ما يُجوهرها، ويصقلها، ويصوغها هو المربِّي والمؤدِّب والمعلِّم، وهي ما نصطلح عليه بالظروف التربوية والأجواء الاجتماعية، التي تؤثر في نمو وتطور وظهور تلك الشخصية المميَّزة فيما بعد.

  • السيدة زينب، عليها السلام، الكبرى

في الحياة الاجتماعية تظهر فيها شخصيات، هي كالقمم الشَّاهقة، والذُّرى الباسقة، تكون كأعلام يهتدي بها الأنام، ومن تلك القمم العالية في التاريخ الإسلامي عامَّة، والعربي خاصَّة هي شخصية ربما تحتل الدَّرجة الثانية من حيث القمم الإنسانية النسائية، هي شخصية السيدة زينب الكبرى، عليه السلام، بضعة فاطمة الزهراء، عليها السلام، سيدة نساء العالمين، وأمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب، عليه السلام، فهي حفيدة الرسول الخاتم الحبيب المصطفى، صلى الله عليه وآله، قمَّة القمم، وذمَّة الذِّمم وسيد بني آدم.

اعتنى أمير المؤمنين، عليه السلام، بابنته زينب الكبرى لما رأى منها العجب العجاب، وعلم ما فيها من آيات العظمة، فهي زين أبيها، وبضعة أمها

فهي كأصل طيب وطاهر هي من أهل البيت الذين قال الله  ـ سبحانه ـ عنهم: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}. (الأحزاب: 33)، فهي من هؤلاء الكرام، وأما صياغتها وتربيتها فكانت على يدي مربِّي البشرية ذاك سيدنا ومولانا أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب وزوجته سيدة النساء فاطمة الزهراء، صلوات الله عليهم جميعاً، وهي ثالثة القمرين النيِّرين سيدا شباب أهل الجنَّة أخويها العظيمين الكريمين الحسنين.

  ففي الحقيقة الواقعية والتاريخية إن السيدة زينب الكبرى، عليه السلام، هي دُرَّة يتيمة، وجوهرة ثمينة خلقها الله سبحانه، وصانها وحفظها ورعاها والدها أمير المؤمنين الإمام علي ، عليه السلام، بعد استشهاد أمها فاطمة الزهراء ، عليه السلام، وهي في الطفولة المبكرة ولكن كانت وصية أمها فاطمة لأبيها علي ، عليه السلام، في آخر لحظات حياتها، بل فيما بعد دفنها كما في الرواية التي تقول بأن أمير المؤمنين، عليه السلام، كان زائراً لها فغفا على قبرها الشريف فانتبه حيث قالت له: قم يا علي وارجع إلى البيت لقد استيقظت زينب ولم تجدنا فاستوحشت وخافت فرجع أمير المؤمنين سريعاً فوجدها في زاوية البيت تبكي خائفة.

  • صياغة الدُّرة الزينبية

التاريخ العلوي المشرِّف يتحدث بشيء عجيب وغريب عن تربية أمير المؤمنين، عليه السلام، لابنته السيدة زينب، عليه السلام، التي رأى منها نبوغاً وعبقرية مبكرة جداً، فتروي تلك الكتب أنه، عليه السلام، أجلسها في حجره وقال لها: بُنيَّة قولي واحد! فقالت: واحد، فقال لها: قولي اثنين، قالت: أبتاه ما أقول اثنين بلسان أجريته بالواحد، فقبَّلها أمير المؤمنين، عليه السلام، وضمَّها إلى صدره.

 وفي يومٍ آخر أجلسها الإمام علي، عليه السلام، على فخذه وطفلاً آخر له على فخذه الآخر وهو يُقبِّلهما، فقالت زينب: أبتاه أتحبنا؟ قال: نعم؛ فقالت: يا أبتاه إن المحبَّة خاصَّة لله تبارك وتعالى، وأما إلينا فهي الشَّفقة)، هكذا كانت تظهر العبقرية الزينبية مبكِّراً.

والعبقرية الفطرية إذا وجدت البيئة الصالحة تتفتَّح كزهر الربيع فتعطي الأريج العَبِق، والجمال والصفاء لبعيدي الأفق، فتتحول تلك الأرض إلى جنَّة خضراء بما تلبسه من السندس الأخضر، وتطرِّزها الأزاهير المختلفة الأشكال والألوان والعطور، وهل من بيئة أطهر وأنقى، وجو أرقى وأتقى من بيت الشَّرف والأدب عند أمير المؤمنين الإمام علي، عليه السلام، وقرينته سيدة النساء فاطمة الزهراء، عليه السلام، فكان من الطبيعي أن تتبلور شخصية تلك الطفلة الرائعة في روحها القدسية، ونفسها النقية، لتُصبح فخر بني هاشم الأكارم وعقيلتهم التي كانوا يفتخرون بها، بحيث أنهم كانوا يُطلقون عليها: عقيلة الطالبيين، فاستنكر ورفض عبد الله بن العباس فقال: بل عقيلتنا كلنا نحن بني هاشم، حتى سمِّيت: أم هاشم فخراً بها.

هكذا اعتنى أمير المؤمنين، عليه السلام، بابنته زينب الكبرى لما رأى منها العجب العجاب، وعلم ما فيها من آيات العظمة، فهي زين أبيها، وبضعة أمها، وفخر إخوتها فخر الوجود وسادة بني آدم في الدنيا والآخرة، فربَّاها – كما نقول بالمَثَل الشامي – “كل شبر بنذر” حتى جاءت الدُّرة المكنونة والآية المخزونة في هذه الأمة المرحومة.

  • صيانة الدُّرة الزينبية

والحديث هنا لا يقتصر على مسألة طفلة ولدت في بيت النبوة، ودرجت في بيت الإمامة الذي أمر الله أن يُرفع ويُذكر فيه اسمه حيث قال: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ}. (النور: 36)، إلا أن الطريقة التي تعامل بها والدها ومربيها من حيث العناية الفائقة، والرعاية الرائقة، جعلت منها جوهرة مصونة لم يرَ أحد خيالها قبل يوم عاشوراء المأساة الخالدة، وفعلاً هنا مسار العجب في سيرة هذه السيدة الطاهرة، فكيف استطاعت أن تعيش في مجتمع لأكثر من خمس وخمسين سنة ولم يُرَ خيالها قط؟

نعرف سر ذلك فيما سقط إلينا من أحاديث تروي طريقة تربية ورعاية وصيانة تلك البنت الجوهرة، من قبل أمير المؤمنين، عليه السلام، شخصياً بحيث أنه تروي كتب التاريخ أنها عندما كانت تريد أن تزور جدها رسول الله، أو أمها فاطمة ، عليهت السلام، فكان لا يدعها تخرج إلا في الليل ويحوطها بأشباله وأبنائه من كل جوانبها، فكان موكبها مهيباً عجيباً لا مثيل له ولا نظير، بحيث لم ترو كتب التاريخ البشري كله نظيراً ومثيلاً له.

علينا جميعاً لا سيما نساءنا وبناتنا العزيزات أن يقتدين بالسيدة زينب، عليها السلام، ولكن زينبيات في كل المناقبيات التي يحملنها ويتأسين بها في حفظها

فكان يخرج أمامها أخوها وكفيلها أبو الفضل العباس وبيده السِّراج، وعن يمينها أخوها السبط الأكبر الإمام الحسن المجتبى، وعن شمالها أخوها الإمام الحسين سيد الشهداء، وأمير المؤمنين شخصياً من ورائها، وعندما يصلون إلى القبر الشريف يُطفئ أمير المؤمنين السِّراج فسأله ولده عن سبب ذلك فقال، عليه السلام،: “حتى لا يرى خيال أختك أحد“.

وما يُثير العجب في هذا الموكب الذي يضم سادة أهل الأرض من ليوث العرين فهي محاطة بهم، بل تُحيطها العصمة والطهارة من كل جوانبها ونواحيها، فأي موكب حظيت به هذه السيدة الجليلة، والدُّرة اليتيمة في هذه الحياة الدنيا؟

  إنها زينب الكبرى، عليها السلام، التي ارتُكب بحقها أعظم جريمة في التاريخ البشري في يوم عاشوراء وما بعدها من قصة السبي والأسر المهين لأولئك الطغاة اللعناء من الأمويين أبناء الشجرة الزقومية الملعونة في القرآن، إلا أنها ورغم كل ما جرى عليها من مصائب وكوارث ومآسي كانت كالجل الراسخ لا يُزعزعه العواصف، ولا تُؤثر به الرياح الهوجاء من أبناء الإماء والأدعياء، بل وقفت شامخة وقالت كلمة الحق بما أخرست بها أعداءها وألقمتهم بأحجارها السِّجيلة التي نزلت على رؤوسهم العفنة كالصواعق السماوية.

  • السيدة زينب، عليها السلام، قدوتنا

وفي هذا العصر الذي أعلن فيه أبناء الحضارة الرقمية الحرب على الزينبيات الطاهرات حتى أطلقت تلك المرأة صرختها قائلة: “اقتلوا كل زينب في العرب والمسلمين قبل أن تقتلوا الحسين”، لأن زينب هي التي حفظت على ثورة الإمام الحسين، عليه السلام، وبلَّغت الدنيا رسالته خلال العامين التي عاشتهما قهراً وحزناً عليه وعلى إخوتها وأبنائها الشهداء في عاشوراء.

ولذا علينا جميعاً لا سيما نساءنا وبناتنا العزيزات أن يقتدين بالسيدة زينب، عليها السلام، ولكن زينبيات في كل المناقبيات التي يحملنها ويتأسين بها في حفظها، وصيانتها، وحجابها، وعفتها وكل سيرتها العلمية والعملية في هذه الأيام التي تعصف بنا العواصف وتقصفنا الحضارة بكل أنواع وأشكال القواصف المائعة يريدون أن يُخرجونا من دين الله أفواجاً، ويأتونا من الزاوية الأضعف فينا ألا وهي المرأة، ولكن نساءنها إذا اتخذن السيدة زينب ، عليها السلام، قدوة وأسوة سنفوِّت على الأعداء اختراقنا قيمياً ودينياً وروحياً. ففي يوم شهادة السيدة زينب، عليها  السلام، التي تُصادف في مثل هذه الأيام 15 رجب المرجَّب، أن نجدد العهد مع السيدة وفخر المخدرات بأن نكون الحصن الحصين للأمة والملَّة والدِّين، مقتدين بسيرة ومسيرة السيدة زينب الكبرى، عليها السلام، في كل شيء بإذن الله تعالى.

عن المؤلف

الحسين أحمد كريمو

اترك تعليقا