مكارم الأخلاق

تأملات في دعاء مكارم الاخلاق (4) هل تؤدي العزّة الى الكبر؟

جاء في دعاء الإمام زين العابدين، عليه السلام: ” وَأَغْنِنِي وَأَوْسِعْ عَلَيَّ فِي رِزْقِكَ، وَلا تَفْتِنِّي بِالنَّظَرِ، وَأَعِزَّنِي وَلا تَبْتَلِيَنِّي بِالْكِبْرِ، وَعَبِّدْنِي لَكَ وَلا تُفْسِدْ عِبَادَتِي بِالْعُجْبِ”.

الإمام السجاد، عليه السلام، عندما يطلب نعمة من الله ـ تعالى-، يطلب ـ أيضا ـ أن يعصمه من آفة تلك النعمة، والنعمة الثانية من ضمن منظومة النعم الخمس التي يطلبها، عليه السلام؛ هي نعمة العزّة.

بطبيعة الانسان يطلب العزّة لنفسه، وقد أوكل الله ـ تعالى- للانسان كل شيء، ولم يوكل له أن يُذل نفسه، فليس من حقه أن يكون ذليلاً امام الآخرين، ولذا يطلب الانسان المؤمن العزّة من الله ـ تعالى-.

وربما أول مرة شهد المجتمع الاسلامي تصنيف الذليل والعزيز، في عهد رسول الله، صلى الله عليه وآله، عندما عاد الجيش الاسلامي من احدى الغزوات، وقد حصلت مشاحنات بينهم، فادّعى جمعٌ من المنافقين بأنهم لن يبقوا على من وصفوهم بـ “الأذلاء” في المدينة، وقد وثّق الحادثة القرآن الكريم في سورة المنافقون، فجاء الجواب القاطع من السماء: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ}.

 

  • أين تكمن في هذه العزّة؟

يمكننا ان نستشف الاجابة من كلامٍ لأمير المؤمنين، نقلها الامام الباقر، عليهما السلام، والكلام عبارة عن سبع كلمات ليس في البلاغة من استطاع ان يقول مثلهُن، منها: “إلهي كفا بيّ عزاً أن تكون لي ربّا، و كفى بي فخراً أن أكون لك عبدا”.

من مفخرة الانسان المؤمن وعزته أن يكون الله ـ تعالى- ربه، ولذا جاء في الحديث: “من اراد عزّاً بلا عشيرة، فليخرج من ذل معصية الله الى عزّ طاعة الله”.

فالذي يتمكن من معارضة رغباته النفسية الداعية الى عصيان الله ـ تعالى- يحرز أرقى مراتب العزّ في الحياة الدنيا، وفي الآخرة، ولا أدلّ من الحر الرياحي الذي قال: “أني أخيّرُ نفسي بين الجنة والنار، و والله لا اختار على الجنة شيئا”، في تلك اللحظة تحول انساناً عزيزاً مكرماً؛ وقال الإمام الحسين، عليه السلام، فيه: “أنت حرٌ كما سمْتك أمّك حُر”.

ولذا يطلب الامام السجاد من الله ـ تعالى- بأن يعزّه بشكل يوفر له المنعة من سلطان طاغي، وشيطان باغي، وفي الحديث الشريف: “كل ما تحت القدرة ذُل”، فالسلطان والحاكم الذي يعد نفسه عزيزاً ومقتدراً، هو بالحقيقة ذليل، بينما العزّة الحقيقية لذاك الذي لا يخاف إلا من الله.

 

  • الكِبْر آفة العزّة

ربما تؤدي حالة العزّة والكرامة بالبعض لأن يتخذها وسيلة للتكبر على الآخرين، بدعوى الرئاسة والوجاهة الاجتماعية والسياسية، مثلاً؛ رئيس العشيرة يشعر أنه عزيزاً من خلال تكبره على الآخرين، وهو ليس كذلك.

نقرأ لدى البعض افكاراً تنصح بـ “بناء الشخصية”، او “بناء الذات”، يريد اصحابها من خلالها تنمية شخصية الانسان ليكون معتداً بنفسه، وفخوراً وقوياً، في حين ربما تدفع هذه الخطوات بالانسان صوب التكبّر والسقوط، فهم بدلاً من أن يعلموا التواضع من اجل السمو والعلو، يعلمون الناس سبيل التكبر والسقوط.

وهذا ما يجعل الامام السجاد، عليه السلام،  يدعو الله ـ تعالى- بهذه الطريقة الشفافة والرائعة، ولو لم يكن لدينا أي سند لهذا الدعاء والكلام، لاكتفينا بعجز أي انسان غير المعصوم، عن أن يتحدث بهذه الطريقة مع رب العزّة والجلال.

 

  • العبودية الحقيقية لله

لماذا يطلب الامام السجاد من الله ـ تعالى- ان يكون عبداً له؛ “وعبّدني لك”؟

الجميع هم عباد الله، بيد أن الطلب هنا لأن يكون العمل بمقتضى العبودية، وهي الطاعة لله ـ تعالى-، بمعنى أن مفهوم الطاعة مقرونٌ بالعبودية لله، لذا قال الإمام الكاظم، عليه السلام، لأمَةِ بشر الحافي وهي خارجة ترمي القمامة، وقد علت أصوات اللهو والمجون من الدار، فقال لها: أ سيدك حُر أم عبد؟! فقال: بل حُر، فقال: لو كان عبداً لأطاع الله ـ تعالى-.

ولكن؛ ربما تكون قمة العبادة والتهجّد لدى البعض سبباً لنشوء العجب في النفس، علماً أننا اذا ندخل الجنة ـ ان شاءالله – بفضل الله لا بفضل اعمالنا. وإلا فان صلاتنا الفريضة التي يصليها الجميع، والتي يقول عنها البارئ ـ تعالى-: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ}، لا تخيف قطّة في الطريق، فضلاً عن ان تمنع من عمل محرم وسيئ!

ولذا فان الإمام السجاد، عليه السلام،  – وهو معصوم – يطلب من الله ان لا تفسد عبادته بالعُجب، وفي الحديث القدسي: “أنا أعلم بما يصلح عليه دين عبادي المؤمنين، أحدهم يجتهد في عبادتي فيقوم من نومه ولذة وسادته فيتهجّد لي فاضربه بالنعاس، نظراً منّي له، و اتقاءً عليه، فينام حتى يصبح ويقوم وهو ماقتٌ لنفسه، ولو خليته بينه وبين ما يريد من عبادتي لدخله من ذلك، العُجب، فيصيره العجب الى الفتنة، فيأتيه من ذلك ما فيه هلاكه، ألا فلا يتكلّ العاملون على اعمالهم فانهم لو اجتهدوا اعمارهم في عبادتي كانوا مقصرين غير بالغين كُنه عبادتي فيما يطلبونه”.

عن المؤلف

السيد مرتضى المدرّسي

اترك تعليقا