مكارم الأخلاق

تأملات في مناجاة التائبين (12) ماذا لو تاب الجميع؟

قال الامام زين العابدين، عليه السلام: “إِلهِي أَنْتَ الَّذِي فَتَحْتَ لِعِبَادِكَ بَابَاً إِلى عَفْوِكَ سَمَّيْتَهُ التَّوْبَةَ، فَقُلْتَ تُوبُوا إِلى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً، فَمَا عُذْرُ مَنْ أَغْفَلَ دُخُولَ البابِ بَعْدَ فَتْحِهِ”.

طريق  العودة الى الله هو الذي يحفظ الانسان من الضياع والتيه، حينما يمارس الانسان العودة الى الله فإن الذنوب لن تتراكم عليه، وبالتالي لن تبقى ظلمات في القلب تتضاعف لتذهب بنوره، فيبقى الضياء والنور في قلب الانسان يتجدد، وتنمو معه الحيوية والارادة والفكر، ولابد ان يكون تفكير الانسان وسلوكه محور العودة الى الله ــ تعالى ــ عمليا.

وإذا لم يعد الانسان في هذه الدنيا الى الله فلن يملك دليلا ولا حجة، ولن يقبل منه عذرا يوم القيامة، “فما عذر من اغفل دخول الباب بعد فتحه”، فإذا ارتكب الانسان جُرما ولم يتب ثم مات فهل يملك عذرا؟

ولذلك إذا ارتكب الانسان ذنبا فعليه المبادرة الفورية بالتوبة، ولا يدع الشيطان يخدعه بالتسويف، ولهذا تأتي الصلاة لتطهر الانسان على مدار اليوم، من الصبح الى الليل، والصلاة هي تعبير عن العودة الى الله وهي إحدى طرق العودة اليه، لكن في بُعد معين وليس في جميع الأبعاد، فما دام باب الله مفتوحا فلابد للانسان ان يعود الى خالقه وبارئه.

⭐ ممارسة ثقافة التوبة يجب ان لا يقتصر على الفرد نفسه، بل عليه نقل هذه الثقافة الى المجتمع

وتأتي للانسان معوقات تمنعه من التوبة كأن يمنيه الشيطان بالتسويف، او ضغوط الاصدقاء وظروف الحياة وما شابه تحول دون العودة الله، لكن كل ذلك ليس أقوى من باب التوبة، لانه باب واسع وسهل، فلا يحتاج الى كُلفة، لان قرار الانسان بيده.

وممارسة ثقافة التوبة يجب ان لا يقتصر على الفرد نفسه، بل عليه نقل هذه الثقافة الى المجتمع، فإذا أخطأ احدهم فليس من الصحيح أن نؤصد الباب بوجهه، بل لابد من فتح باب العودة حتى يتسنّى له الرجوع الى الله، فهناك بعض الشباب بعيدين عن التدين والالتزام فأمثالهم يجب ان لا يُبعدوا  ويُعزلوا عن التجمع الايماني، بل لابد من السعي الى تقريبهم الى الله من خلال التوبة والمشاركة في الاعمال الدينية المختلفة.

نحن بحاجة الى تكريس ثقافة التوبة من خلال الاستغفار، والندم، وعبر القيام بمجموعة اعمال أخرى، فحتى يحافظ الانسان على توبته من ضغوط الحياة، فالاستغفار وحده لا يكفي من دون اعمال اخرى، وإلا يبقى الفرد ضعيفا امام الضغوط الحياتية، وتلك القوة هي برنامج العمل الصالح؛ قراءة القرآن الكريم بتدبر، ومطالعة الكتب الرسالية المفيدة، وقراءة الدعاء بإحاطة بمضامينه والاستفادة من الزمن المناسب للدعاء، فمثلا وقت السحر يعد من الاوقات الذهبية لاستجابة الدعاء.

أبناء نبي الله يعقوب عليه السلام، حين تآمروا على أخيهم يوسف، ثم بعد مدة أدركوا خطـأهم وذنبهم، وطلبوا من أبيهم ان يستغفر لهم ربهم، وفي ليلة الجمعة ووقت السحر سأل الله لهم التوبة، وفي قصة ابناء يعقوب درس لنا، فهم بعد مدة ليست بالقليلة عادوا الله.

القرآن الكريم يؤكد ان لابد من التوبة مع الاصلاح: {تابوا واصلحوا} لان الانسان حينما يرتكب ذنبا يُحدِث خللا، الأمر الذي يستدعي إصلاح الخلل ويكون ذلك بالعمل الصالح.

وممارسة الاعمال الصالحة ضروري لانجاح عملية التوبة والعودة الى الله، فمن العمل الصالح هداية الآخرين والقيام بهذا العمل يعني نشر الفضيلة، ومحاصرة الرذيلة.

وضمانة عدم رجوع الانسان الى الذنب هي التفكير الكبير فيما حوله، فحينما يكون التفكير كبيرا ورى العظمة الالهية، تتصاغر عنده المعاصي والشهوات، بهذا النوع من التفكير والتأمل يحصل الانسان على نوع من العصمة.

ولذا نحن بحاجة الى تعظيم قيم الله؛ كالقرآن القرآن الكريم، وتعظيم شعائر الله: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}، فتعظيم الشعائر تبلغ القلوب بها الدرجة العليا من التقوى التي تكون بمثابة حاجز تمنع عن اقتراف المعاصي، والتقوى هي التي تحافظ على ثمرة التوبة.

⭐ ممارسة الاعمال الصالحة ضروري لانجاح عملية التوبة والعودة الى الله، فمن العمل الصالح هداية الآخرين والقيام بهذا العمل يعني نشر الفضيلة، ومحاصرة الرذيلة

وبالعودة الى حياتنا اليومية؛ نجد ان نصيب القرآن الكريم والأدعية من أوقاتنا ضئيل جدا، ويكاد يكون معدوما ان يكون لنا دور رسالي في المجتمع، أما حضور صلاة الجماعة فربما في السنة عدة مرات!

ولهذا يجب ان تكون الأمور العبادية ــ قراءة القرآن والادعية وما شابه ــ برنامج رئيسي في حياتنا، وذلك بجعلها ضمن الاولويات، وأن لا يزاحمها عمل آخر، فثمار التوبة التي جنيناها لابد ان نحافظ عليها، ولن يكون ذلك إلا بالالتزام الدائم ببرنامج عبادي {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ *رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ}، هناك فرق بين بيت يتلى فيها القرآن، ويقرأ فيه الادعية، وبين بيت يُعلى فيه صوت الغناء فهذا البيت يدعو الى  الفساد وارتكاب الذنوب، اما بيوت القرآن فهي التي تدعو الى التوبة وعدم ارتكاب الذنوب.


  • (مقتبس من محاضرة لآية الشهيد نمر باقر النمر)

عن المؤلف

هيأة التحرير

اترك تعليقا