أسوة حسنة

فَاطِمَةُ الزَّهرَاءُ (عَ) هَدِيَّةُ السَّمَاءِ ضَيَّعَهَا الأَشْقِيَاءُ

  • مقدمة نورانية

هل كانت فاطمة الزهراء، عليها السلام، امرأة كبقية النساء؟

هذا ما يخطر بالبال لأول وهلة، وذلك لأنني رأيتُ ومن خلال تجربتي الشخصية، أن كل منَّا ينظر ويضع فاطمة الزهراء، عليها السلام، في مقام أغلى ما لديه من النساء، لاسيما والدته العزيزة، فسألت أحدهم يوماً وأنا في إحدى المساجد، عن هذا السؤال؟

ولكن الحقيقة غير ذلك تماماً، وذلك لأن فاطمة الزهراء، عليها السلام، ليست كبقية النساء لأن الله خلقها درَّةً فريدة ليس لها مثيل، ولا نظير، ولا شبيه، وكأن الله، سبحانه خلقها كأبيها وبعلها لتكون مقياساً لجنس النساء، وقدوة وأسوة لهن عبر العصور والدهور، فما هو السرُّ الفاطمي؟

ذلك محجوب عنَّا معرفته لأنه سرُّ الأسرار، ولكن مطلوب منّا الإيمان به، وتعظيمه، وتقديره، واحترامه، وإكرامه، وحبه، وولايته، لأنها المخلوقة النورانية التي جاءت طينتها من الجنان، وعُجنت بماء التسنيم، وأُهديت لأبيها سيد الخلق أجمعين، بعد انقطاع بين الوالدين العظيمين بما يُشبه الاعتكاف كلٌ في مكانه، قضياها بصوم النهار وقيام الليل، حتى جاء الموعد و اشتاق كل حبيب إلى حبيبه، نزل وفدٌ من السماء، بتحفة وهدية من الخالق –تعالى- إلى أعظم مخلوق، صلى الله عليه وآله.

 

  • هديَّة السَّماء لسيد الأنبياء

ففي الرواية المعروفة: “فلما كان في كمال الأربعين هبط جبرئيل، فقال: يا محمد! العليُّ الأعلى يُقرئك السلام وهو يأمرك أن تتأهب لتحيَّته وتحفته.

فقال النبي (صلى الله عليه وآله): يا جبرئيل وما تحفة رب العالمين؟ وما تحيته؟

فقال جبرئيل: لا علم لي.

فبينما النبي، صلى الله عليه وآله، كذلك، إذ هبط ميكائيل ومعه طبقٌ مغطّى بمنديل سُندس أو إستبرق، فوضعه بين يدي النبي، صلى الله عليه وآله، وأقبل جبرئيل، عليه السلام، وقال: يا محمد! يأمرك ربك أن تجعل الليلة إفطارك على هذا الطعام.

قال علي بن أبي طالب، عليه السلام: كان النبي، صلى الله عليه وآله، إذا أراد أن يُفطر أمرني أن أفتح الباب لمَنْ يَرد من الأقطار، فلما كان في تلك الليلة أقعدني النبي، صلى الله عليه وآله، على باب المنزل وقال: يا بن أبي طالب إنه طعام محرَّم إلاّ عليَّ.

 

بما إن عنصرها من عناصر السماء في الأرض، فكانت تُزهر لأهل السماء كما النجوم، وتُزهر لأمير المؤمنين، عليه السلام

 

قال علي، عليه السلام: فجلستُ على الباب، وخَلا النبي، صلى الله عليه وآله،  بالطعام، وكشف الطبق، فإذا عذقٌ من رطب، وعنقودٌ من عنب، فأكل النبي، صلى الله عليه وآله، منه شبعاً، وشرب من الماء ريَّاً، ومدّ يده للغسل، فأفاض الماء عليه جبرئيل، و غسل يده ميكائيل و تمندله إسرافيل، و ارتفع فاضل (باقي) الطعام مع الإناء إلى السماء.

ثم قام النبي، صلى الله عليه وآله، ليُصلي فأقبل عليه جبرئيل وقال: الصلاة محرَّمة عليك في وقتك حتى تأتي إلى منزل خديجة فتواقعها، فإن الله عز وجل آلى (حلف) على نفسه أن يخلق من صلبك هذه الليلة ذرية طيّبة. فوثب النبي، صلى الله عليه وآله، إلى منزل خديجة.

ثم قالت خديجة: فلما كانت تلك الليلة لم يدعُ بالإناء ولم يتأهب للصلاة، بل كان بيني وبينه ما يكون بين المرأة وبعلها، فلا والذي سمك السماء، وأنبع الماء ما تباعد عنِّي النبي حتى أحسستُ بثقل فاطمة في بطني“. (فاطمة الزهراء، عليها السلام، من المهد إلى اللحد السيد القزويني: ص22)

وبعد ذلك وطيلة فترة الحمل كانت الضيف الخفيف والمؤنس لأمها السيدة خديجة الكبرى، عليها السلام، في وحدتها، حيث هجرها نساء قريش لأنها تزوجت يتيم أبا طالب، عليه السلام، ورفضت أشرافهم وكُبراءهم وأغنياءهم وطواغيتهم، وتزوجت محمداً اليتيم الفقير الذي لا مال له، فعن الإمام الصادق، عليه السّلام، عن ولادة أمه فاطمة، عليها السّلام، قال: “إنّ خديجة لمّا تزوّج بها رسول الله، صلّى الله عليه وآله، هجرها نسوةُ مكّة، وكنّ لا يدخلنَ عليها ولا يُسلّمن عليها، ويمنعنَ امرأةً أرادت أن تدخل إليها، فاستوحشتْ خديجة لذلك، وكان جزعها وغمّها حذراً عليها، فلمّا حملتْ بفاطمة كانت فاطمة، عليها السّلام، تُحدّثها من بطنها وتُصبّرها، وكانت تكتم ذلك عن رسول الله، صلّى الله عليه وآله، فدخل رسول الله، صلّى الله عليه وآله، يوماً فسمع خديجة تُحدّث فاطمة، فقال لها: يا خديجة، مَن تُحدّثين؟ قالت: الجنين الذي في بطني يُحدّثني ويُؤنسني؛ قال: يا خديجة، هذا جبرئيل، عليه السّلام، يُبشّرني أنّها ابنتي، وأنّها النَّسلة الطاهرة الميمونة، وأنّ الله تعالى سيجعل نسلي منها، وسيجعل من نسلها أئمّة، ويجعلهم خلفاء في أرضه“. (روضة الواعظين، للفتّال النيسابوري: ج1 ص 144)

وغاب عن أولئك الجُّهال ونسوتهم أن الدنيا وما فيها هي ملك لرسول الله محمد، صلى الله عليه وآله، ولكن أنَّى لأهل الجهل والجاهلية أن يفقهوا، أو يفهموا ذلك.

 

فاطمة الزهراء، عليها السلام، ليست كبقية النساء لأن الله خلقها درَّةً فريدة ليس لها مثيل، ولا نظير، وكأن الله، سبحانه، خلقها كأبيها وبعلها لتكون مقياساً لجنس النساء، وقدوة وأسوة لهن عبر العصور والدهور

 

وفي روايات كثيرة ومتعددة رواها ليس شيعتها ومحبيها فقط بل جميع طوائف المسلمين، فقد روى الطبراني بإسناده عن عائشة، قالت: “قال رسول الله، صلّى الله عليه وآله: لمّا أُسري بي إلى السماء أُدخلتُ الجنّة، فوقفتُ على شجرة من أشجار الجنّة لم أرَ في الجنّة أحسن منها ولا أبيض وَرَقاً ولا أطيب ثمرة، فتناولتُ ثمرةً من ثمارها فأكلتُها، فصارت نُطفةً في صُلبي، فلمّا هبطتُ إلى الأرض واقعتُ خديجة فحملتْ بفاطمة رضي الله عنها، فإذا أنا اشتقتُ إلى ريح الجنّة شممتُ ريح فاطمة“.

و روى الحاكم في المستدرك عن سعد بن مالك، قال: “قال رسول الله، صلّى الله عليه وآله: أتاني جبرئيل، عليه الصلاة والسلام، بسفرجلة من الجنّة فأكلتُها ليلةَ أُسري بي، فعَلِقَت خديجة بفاطمة، فكنتُ إذا اشتقتُ إلى رائحة الجنّة شممتُ رقبة فاطمة“. (المستدرك، للحاكم: ج3 ص 156، المناقب، لابن المغازلي: ص359 ح 407)

ويُعلق سماحة السيد المرجع المدرسي -دام عزه- على هذه الروايات الجِنانية المباركة: “ولا زالت تحفُّها هالة من المعاجز الخارقة، وهي في بطن أمها تكبر ساعة بعد ساعة حتى أنها كانت تُحدِّث أُمها وهي في بطنها، فتؤنسها بذلك، حتى وُلدت وكان لميلادها ميزة تدلُّ على اهتمام الخالق بها اهتماماً بالغاً، وقد يتملكنا العجب حين نرى مثل ذلك مخصوصاً بميلاد فاطمة”. (فاطمة الزهراء، عليها السلام، قدوة وأسوة: ص7)

 

  • فاطمة الزهراء، عليها السلام، حوراء إنسية

نعم؛ يجب أن يتعجب الإنسان من تلك الكمية الكبيرة من الروايات النبوية النورانية التي تُؤكد على أن نطفة، وغذاء، وماء السيدة فاطمة الزهراء، عليها السلام، هي ليست من الأرض وغذائها ومائها بل هي من أعلى جنان السماء، فإما صعد رسول الله، صلى الله عليه وآله، إليها في الجنة، أو أنها نُزِّلت إليه، ولكن بعد صيام أربعين يوماً، وقيام لياليها وكانت تحفة الله وتحيته، والعجيب أن الصلاة كانت محرَّمة على رسول الله، صلى الله عليه وآله، والغذاء (عذق الرطب وعنقود العنب والماء) محرَّماً على أهل الأرض حتى على أمير المؤمنين علي، عليه السلام، الذي جلس حارساً على الباب ينتظر انتهاء الوجبة السماوية، ولهذا كانت فاطمة، عليها السلام، “حوراء إنسية“، وليست إنسية أبداً.

وبما إن عنصرها من عناصر السماء في الأرض، فكانت تُزهر لأهل السماء كما النجوم، وتُزهر لأمير المؤمنين، عليه السلام.

عن ابن عمارة عن أبيه قال: “سألت أبا عبد الله، عليه السلام، عن فاطمة لمَ سُمِّيت زهراء؟ فقال: لأنها كانت إذا قامت في محرابها زهَّر نورها لأهل السماء كما يُزهِّر نور الكواكب لأهل الأرض” (بحار الأنوار: ج 43 ص13)

وفي رواية عن جابر، عن أبي عبد الله، عليه السلام، “قال: قلتُ: لمَ سُمِّيت فاطمة الزهراء زهراء؟ فقال: لأن الله عز وجل خلقها من نور عظمته فلما أشرقت أضاءت السماوات والأرض بنورها وغشيت أبصار الملائكة وخرَّت الملائكة لله ساجدين وقالوا: إلهنا وسيدنا ما هذا النور؟ فأوحى الله إليهم: هذا نور من نوري وأسكنته في سمائي خلقته من عظمتي أُخرجه من صلب نبي من أنبيائي أُفضله على جميع الأنبياء وأُخرج من ذلك النور أئمة يقومون بأمري“. (بحار الأنوار: ج 43 ص12)

 

  • هديَّة السماء ضيَّعها الأشقياء

هذه النَّسمَة الجِّنانية، والنعمة الربانية، والبضعة النبوية، والقرينة العلوية، التي جعلها الله محور وجود أصحاب النور والكمال، بكل تجليات الجمال والجلال في هذه الدنيا كما في حديث الكساء القدسي حيث يقول رب العزة والجلال: هُم أَهلُ بَيتِ النُّبُوَّةِ وَمَعدِنُ الرِّسالَةِ؛ هُم فاطِمَةُ، وَأَبُوها، وَبَعلُها، وَبَنوها، فكانت هي قطب رحاها، ومدار ضمائرها، وصاحبة الأسرار فيها، فهل عقل رجال قريش وحُكامها شيء من ذلك حينما كذَّبوها في دعواها، وطلبوا منها البيِّنة على ملكها وهم يجب أن يُقيموا البيِّنة على دعواهم؟

ولكن تكالبوا عليها، واستضعفوها، وانتهكوا حُرمتها، واقتحموا بيتها، وأرادوا أن يحرقوه عليها، بعد أن منعوها من البكاء على أبيها، صلى الله عليه وآله، فقطعوا حتى الأراكة التي كانت تبكي تحتها، فقتلوها لوقوفها إلى جانب الحق ومطالبتها بحقها وحق بعلها وبنيها فالتحقت بأبيها بعد أربعين يوماً فقط.

عن المؤلف

الحسين أحمد كريمو

اترك تعليقا