أدب

الحسين الثمرة اليانعة في بيت الرسالة (2*)

ـ1ـ

لا يمكن أن يكون للقضية غير هذا الاساس ـ لقد كانت القضية مطلقة في مرماها وجوهرها، فهي ما تناولت تنظيماً عادياً من شؤون الهندسة، كإنشاء بيت، أو إنشاء قصر، ينزل في الوحدة الصغيرة عائلة مسكينة، وفي الوحدة الأخرى أمير له ثراء وجاه وسلطان، إنما تناولت شأناً حياتياً آخر، له من الحقيقة والشمول، تصميم وتركيز في عملية بناء الفرد بناءً إنسانياً، مجتمعياً، تتحق به الغايات الشريفة في الحياة، فلا بيت ينشأ ـ والقضية هذه هي المطروحة فوق البساط ـ ولا قصر ينشأ أيضاً ـ وتكون لهما حقيقة الثبات، ما لم تحفر أساسيهما عناية القضية الكبيرة التي تركز نظرة الإنسان على الحقيقة الصادقة فيه، فيبني مجتمعا صادقا يصون فعالياته الفردية الانسانية المتحولة ـ حتماً ـ إلى مجتمع سليم منيع، وعندئذ يكون له البيت، والقصر، والمتعة بالعمران. إنّ الأمة الصادقة هي الأمة المنيعة، لا يدعمها في مناعتها إلّا الحق، والصواب، ونظافة العقل، والروح، وهي كلها ـ في العدل والمساواة ـ وحدة عظيمة يجدها الإنسان في ضلوع المجتمع.

تلك هي القضية ـ إنها حشو الاساس ـ وإنها هي البيت الذي سكن فيه باعث الرسالة، وإنها هي الاساس الذي تقوم عليه جدران هذا البيت الذي هو ـ بكل محيطه ـ بيت الأمة في حقيقة الرمز.
أيكون أهل هذا البيت ملموحين حجارة في الأساس؟ إن للمنطق إصبعاً تستقيم بها الإشارة، وإن للقضية تعييناً تتوضح دلالته الى المقلع المرصوص بصلابة الصوان، وإن للحقيقة عيناً لم يدعج بها إلّا علي بن أبي طالب وهي ترنو إليه بأنه المقلع الممتاز الذي يصح به وصف الأساس.
ومن الجهة المقابلة ـ أتكون الإمامة ركناً يقوم على الأساس؟ ولكن القصد الحكيم كأن جعله سربا ينضح منه ليعود ويسقيه فلا يعطش، أما المعنى فإنه أبداً واحد، فالقضية التي هي في عمق الشمول، والتي كلّفت جهداً يوازي عمر الجزيرة في التفتيش عن واحتها الكبرى، تتطلّب صيانة أساسية مركَّزة على مثل النظافة والجدراة اللتين يتجوهر بهما معدن الإمام علي عليه السلام.

كما وأن القبلية الهزيلة العقل والهزيلة الانسان، أصبحت الآن ترفض إعادة لملمة حروف إسمهما أمام جلال القضيّة التي انبسطت بها أرجاء الجزيرة في وحدة مجتمعها ـ ستكون الإمامة الكرسي الجديد والأنظف، تجلس فيه ركيزة الارادة، دونما احتياج الى أية استشارة أو إثارة. إن النظافة المرمية في الأساس، وفي المدمامك الأول، هي التي تستشار الآن، والتي ستستشار في الغد ـ ولكن الأمة التي سيصلب عودها فوق هذا الأساس، سيكون لها، في مثل هذا الصدق والطهر، ذياك المران، وستبقى القضية الكبيرة التي جمعتها هي مستشارها الأفخم ـ ينجيها ـ ما دامت في وضوح الصراط ـ من العثار.

في مثل هذا الجو المفعم بالمسؤولية البالغة العمق، والقصد والجوهر، كان يعيش البيت وأهلُهُ، لم يكن الإمام الحسين، عليه السلام، الذي يقفز الآن على الطريق الممتدّ بين باحة البيت وساحة المسجد، ليفقه كثيراً ثقل القضية، ولكنه كان يشعر أن شيئاً عظيماً يدغدغه وهو يفرق الناس الجالسين القرفصاء، وهم يصغون إلى كل كلمة تخرج من بين شفتي جده، صلى الله عليه وآله، الجالس فوق المنبر. لقد توصَّل الفتى ـ بعد عناء ـ إلى جدّه المنبري بجلاله لقد مدَّ يديه وتعلّق بطوق الجبَّة، وصعد الهوينا، وكفُّ جدِّه يسنده من الوراء، وإذا به، رويداً، يمتن ربوضه فوق المنكبين المستسلمين لإرادة الفارس. لقد تبسَّم الجد، صلى الله عليه وآله، الذي هو الآن رحل الإمام الحسين عليه السلام، وهو يقول: هذا سيدٌ ثانٍ من أهل الجنة، فطوبى لأمة فيها مثل الإمام علي عليه السلام ينجب!

ـ2ـ

وهذه حروف أخرى ما رصفت ذاتها بذاتها ـ ما كانت الحروف لأن ترقص على أذنابها فتتلحَّن بها الكلمة معطوفة على رنَّة الوتر، إنّما المعاني هي التي يشغفها القصد فتتنضَّد حروفاً يرقص بها الوتر.
لو لم يكن الإمام الحسين عليه السلام، لمعة حلوة في حلم ذلك الذي رقص الدوي في أذنيه فصار بعثاً، وصار حرفاً ضجَّت به الآيات في القرآن الكريم، لما كان له الآن أن يلف عنق جدّه بذراعيه الصغيرين، ويجثم فوق منكبيه ويثغثغ بالآية الهابطة من الجنَّة التي رآها جدَّه سيداً فيها أما الجنة التي يشير إليها النبي، صلى الله عليه وآله، المشبع بالمهابة والجلال، فهي التي رسم لها انموذجاً فوق الأرض، في مجتمع الأمة بالصدق، ويبني بالعلم والمعرفة، إنساناً يصبح عظيماً بمقدار ما ترجح فيه قيمة المثل.
تعيسةُ هي الكلمة التي تأخذها الأذن أو العين دون أن يؤخذ معها لونها وصداها! وأتعس منها كل حقيقة تحتشم إذ تترك الحرف يتربَّع بها ويتأنَّق بأدراجها في لفة الرمز، فإذا بها تترك ملفوفة بحشمتها، وينبري الحرف يتبجَّح بأنه هو الصدفة، ولولاه كانت بهرجة ولا لؤلؤة!
تلك هي قصَّة الإمام الحسين عليه السلام، الطفل فوق منكبي جده فوق منبر المسجد ـ لقد سمع الناس ورأوا عاطفة تموع، وبادرة يلعب بها طفل اسم أمه فاطمة عليها السلام، أمّا الرمز، وأما الصدى، فلا علاقة للرسالة بهما، كأن النبي العظيم، صلى الله عليه وآله، الذي أخضع الجزيرة برمَّتها وجعلها تسجد أمام عظمة الحق، ونجّاها من طفولة بائسة ما كانت تلعب إلّا بالتراهات والخرزات الزرق ـ ليس له إلا يلاعب طفلاً اسمه الحسين عليه السلام، لا لشيء إلا لأن أمه اسمها فاطمة، عليها السلام، ولأنها ابنته من لحمه ودمه.
أما الطفل الصغير الذي كان مجذوباً إلى منكبي جده، صلى الله عليه وآله، وهو يملي على الناس كيف لهم أن يجتمعوا دائماً مع كل غد، فإنه وحده ـ على الأقل ـ راح ينحفر في نفسه، بأنَّ الرسالة الكبيرة هي التي يغار جده عليها، وهي التي يعتبرها دعامة اليوم لتكون دعامة الغد ـ إنّ هذه اللحظة ـ بالذات ـ هي التي تحفر في نفسه عمق القضية، وعمق المسؤولية، وعمق الوصيّة، وعمق الرمز الذي هو كل الصدى.

مقتبس من كتاب الإمام الحسين في حلة البرفير- للكاتب سليمان كتاني

عن المؤلف

هيأة التحرير

اترك تعليقا