إضاءات تدبریة

السلوك الاجتماعي في ضوء القرآن الكريم [3]

لأنه قرآن حكيم قد نزل من لدن عليم حكيم فهو يسعى ليبني مجتمعا حكيماً، وذلك من ..؟؟

قال تعالى: {ذَٰلِكَ مِمَّا أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ ۗ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ فَتُلْقَىٰ فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا}.

لأنه قرآن حكيم قد نزل من لدن عليم حكيم فهو يسعى ليبني مجتمعا حكيماً، وذلك من خلال ما تدعو إليه آياته المباركة من الحكمة والموعظة وتبين معانيها، وتوضح مصاديقها، وترشد إلى طرق اقتناءها.

ونحن إذ نقف أمام هذا البحر الزاخر من العلم والذي لم ولن ينضب ابدا، نحاول أن نغترف غرفة منه علّه يكون لنا سبيلاً على الرشاد في الدنيا ونجاة في الآخرة.

[ .. الاطار العام للحكمة والوجه الاشمل لها يتمثل في التوحيد لله وعدم الشرك به، ذلك أن الشرك بالله يشكل جذر كل مشكلة، اجتماعية كانت أو نفسية ..]

ونحن نقرأ هذه الآية المباركة، نتساءل؛ ما هي تلك الحكمة التي اوحاها لنا الله تبارك وتعالى؟ ماذا تعني؟ وماهي مصاديقها؟

في تتبع وتأمل لهذه الآية نجدها قد جاءت في سياق قرآني متصل يبدأ بقوله تعالى: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} وينتهي بـ {وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ فَتُلْقَىٰ فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا}، ومابين هذين الآيتين مجموعة من الآيات التي تحمل شطرا من المسؤوليات التي تنظم السلوك الاجتماعي، والتي تمثل أبرز مصاديق الحكمة.

فبذلك نفهم من خلال التأمل والتدبر في هذه الآيات أن المقصود بالحكمة هي حالة التوازن في سلوكيات الإنسان والالتزام ببعض الأحكام والعادات الأخلاقية والابتعاد عن البعض من السلوكيات الخاطئة.

وأن الاطار العام للحكمة والوجه الاشمل لها يتمثل في التوحيد لله وعدم الشرك به، ذلك أن الشرك بالله يشكل جذر كل مشكلة، اجتماعية كانت أو نفسية، فالشرك وجهها النظري بينما وجهها العملي فهو الكذب والغدر والخيانة، وعدم الوفاء وغير ذلك. وكذلك الإيمان بالله وتوحيده من جهة، والصوم والصلاة والحج وغيرها من مظاهر التعبد لله من جهة أخرى يعتبران وجهين لقضية واحدة.[١]

فالتوحيد بالله وعدم الشرك به ينتج عنه الالتزام بمجموعة من السلوكيات والاخلاقيات والمسؤوليات التي بدورها تنظم سلوك الفرد في المجتمع، وهي تُعد بمثابة دساتير وقوانين تحافظ على التوازن الاجتماعي، والتي يعبر عنها القرآن الكريم بالحكمة، إذ أن الحكمة تعني حالة التوازن والانضباط في سلوك الفرد والمجتمع.

ومصاديق الحكمة كما تبينها الآيات المباركة هي:

1- {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ}، العبادة الخالصة لله عزوجل وعدم الشرك به.

2- {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا}

الإحسان إلى الوالدين والاهتمام بهم ورعايتهم عند الكبر والتواضع لهم.

3- {وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا}.

 

[ .. عند الاعراض عن الناس واعتزالهم والابتعاد عنهم لابد أن يكون لوجه الله ومن أجل التفرغ لعمل في سبيل الله، لا لتكبر أو غرور ونفور عنهم ..]

 

إعطاء الزكاة لمستحقيها وبالخصوص ذوي القربى والمساكين وأبناء السبيل، فلابد من الإهتمام بهؤلاء ومساعدتهم والعطف عليهم وإعطائهم الزكاة وعدم التبذير والاسراف ذلك أن “الذي لديه أموال طائلة ولا يعطي حقوقها فإنه لا بد أن يكون مسرفاً، لأن صاحب الدنيا إنما يمنعه من العطاء السرف أو البخل، وما الإسراف الا استعمال الشيء في غير محله الذي خلقه الله من أجله، وبذلك فإنه انحراف عن مشيئة الله وسننه في الحياة وكل ما خالف أوامر الله وسننه في الخلق فهو نوع من الكفر، والشيطان كافر، فالله تعالى يقول:  {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ۖ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا}“[٢].

4- {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا}.

عند الاعراض عن الناس واعتزالهم والابتعاد عنهم لابد أن يكون لوجه الله ومن أجل التفرغ لعمل في سبيل الله، لا لتكبر أو غرور ونفور عنهم وأيضاً لابد أن يقابل الاعراض بالكلمة الطيبة والقول الميسور والأخذ بخواطرهم.

5- {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا حسُورًا}.

التوازن في الإنفاق، فلا البخل والشح ولا الإسراف والتبذير.

6- {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ ۖ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ۚ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا}.

الثقة بالله بأنه هو الرزاق الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر على من يشاء، وهنا لابد أن لا يكون لدينا خوف من المستقبل بأن يصيبنا الفقر بسبب كثرة الأولاد وبالتالي تعمل بعض الأسر على تحديد النسل أو الإجهاض أو حتى قتل الأطفال كما كان في الجاهلية. كما لا يجوز أن نقتل أبنائنا معنوياً بسبب الفقر وذلك بأن نقتل طموحاتهم وأهدافهم، لأن الله تبارك وتعالى هو الذي يرزقنا وإياهم.

7- {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا ۖ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا}.

من الحكمة الابتعاد عن الزنى، ذلك لأنه فاحشة تؤدي إلى غضب الرب وبالتالي إلى جهنم، كما أنه (ساء سبيلا) فهو طريق سيء لاشباع الغرائز ويؤدي إلى نتائج غير محمودة ويسبب مشاكل اجتماعية كثيرة، لايسع المجال لذكرها هنا.

 8- {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ۗ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ ۖ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا}.

القتل هو من المساوئ التي تفتك بالمجتمع فلابد من اجتنابه ومحاولة الاقتراب منه، وإن كان لابد، فلابد أن يكون بالحق والاقتصاص وفق الأحكام الشرعية، فلا يجوز قتل غير القاتل ولا قتل أكثر من واحد.

9- {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ۚ}.

لا يجوز التصرف بأموال اليتيم الا بما يدر عليه بالنفع، وإن يكون ذلك بموافقته، مع ضمان تسليم حقوقه له عندما يبلغ رشده.

10- {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ۖ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا}.

الوفاء بالعهد والالتزام به وعدم النكوث والخيانة.

11- {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}.

لابد من الوفاء بالكيل والوزن بالقسطاس المستقيم وعدم الغبن والغش.

12- {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}.

لا تدخل في أمور لا علم لك بها ولا دراية، ذلك أن الله سبحانه وتعالى قد أعطاك السمع والبصر والفؤاد التي تستطيع من خلالها أن تتعلم ما جهلت وتحط خبرا بما غاب عنك، وقد حملك الله مسؤولية ذلك.

13- {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا}.

عدم الغرور والعجب وان لا تمشِ مرح معجب بنفسك لأنك لاتستطيع أن تقهر قوانين الطبيعة فلا تستطيع أن تخرق الأرض ولا تصل إلى عظمة الجبل.

تلك هي أبرز مصاديق الحكمة التي اوحاها الله تبارك وتعالى من خلال كتابه المجيد: {ذَٰلِكَ مِمَّا أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ}، تلك الحكمة التي تعني السلوك الحسن المنضبط، فمن يلتزم بتلك السلوكيات ويطبق تلك التعاليم الإلهية فإنه يكون قد التزم بالحكمة وكل من التزم بها كأفراد أو مجتمعات فستنصلح حياته وتنضبط ويعيش السعادة والهناء.

———————————-

 (1) من هدى القرآن ج٤ ص٤٢٩

 (٢) من هدى القرآن ج٤ ص٤٣١

عن المؤلف

الشيخ حسين الأميري

اترك تعليقا